(1)
التقم أطلس أوين، أحد رجاله الغائبين الذي لطالما أحَبّه وقد اشتاق إليه، وحزن بشدة على ويليام عندما علم أنه مات مريضًا، وشعر بالفقد أكثر مما كان يشعر عندما كان يظن أنهم هربا.
ثم أكمل حياته المملة الوحيدة هائمًا في المحيطات، وبين الحين والآخر يُخرِج رجاله للصيد غير عابئًا وغير مدركًا أنه في أسبوع واحد أخرجهم مرتين، وظل على هذا الحال حتى وجد نفسه قد عاد إلى بحر الشمال المتجمد، حيث كان يبحث عن الحوت الذي أخبره الأوركا أنه ربما يعلم شيئًا عن الحيتان الضائعة من نوعه.
وظل يجوب ذلك البحر وهو يغني لينادي على أي حوت ذو جوف يفهم غناءه، لكن ما فعل غناؤه سوى أن جعل كل الحيتان تفِر منه.
وكما هي عادته لكسر الملل أخرج رجاله إلى سفينة كانت قد اصطادت حوتًا وجنّبته إليها، فخرج الرجال وحرص أطلس على ألا يمسّوا المياه الباردة حتى لا يتجمدوا، وعندما شعر بأن القتال قد بدأ ظهر على السطح ونفث بجانب السفينة كأنه يشمت، بعدها سمع صوت من تحت الماء:
- هل تتعمد أن تتنفس بجانب البشر؟!
لم يُجِب أطلس على الفور ليتبين السائل، فكان حوت صائب كما يسميه البشر، لطالما كان ذلك النوع بغيض الخلقة، وذلك الحوت مع حجمه الضخم كان أبغضهم.
وربما اتضح له شكل أطلس فأردف:
- ماذا تفعل هنا؟
كان آخر ما يريده أطلس هو أن يعرف حوت آخر بما يفعل هو ورجاله بسفن البشر، فإذا انتشر الأمر بين الحيتان ذوي الأجواف فلربما يقتلونه، كما أن أطلس يرى رجلًا واحدًا في جوف ذلك الحوت، فعلم أنه من هؤلاء المتزمّتين الذين لا يرحمون من في جوفهم ويكتفون بواحد، وعلم أن من حسن حظه أن ذلك الحوت أيضًا يرى واحد فقط في جوفه وهو سامبار الذي لا يَخرج أبدًا، فالتزم أطلس الحذر فيما يقول وأجاب:
- لا أفعل شيء
- أقصد كيف جئت إلى هنا؟
- أنا أعيش في هذا المحيط
- أنتَ متأكد؟ ولِمَ لَمْ أرَك هنا من قبل؟
- وهل رأيت كل من يعيش هنا؟
شعر أطلس بأنه تكلم بشيء خاطئ، إذ يبدو كلامه مثل البشر أكثر من الحيتان، فأضاف:
- أقصد كيف لم ترَني هنا من قبل؟
- أنا فقط لم أرَ حوتًا من فصيلتك هنا من قبل
- ماذا؟ هل رأيتهم؟ أخبرني أين هم.. أليسوا في المحيط الأطلسي؟!
- بالفعل، لقد رأيتهم... مهلًا! ماذا قلتَ؟ كيف تسمي الأشياء مثل البشر؟
- نعم، أنا لا أسميها ولكن أعرف أسماءها.. فقط أخبرني أين رأيت الحيتان من فصيلتي
- لا انتظر.. هل تكلِّم مَن في جوفك؟
- أكلم الرجال في جوفي طوال الوقت، والآن...
- رجال؟!! هل يعيش في جوفك رجال؟ ولمَ لا أرى سوى واحد
وعلم أطلس أنه قال شيئًا خاطئًا آخر، ثم أردف الحوت:
- أنا أعرفكَ، وأعرف أنك من هؤلاء الأغبياء الذين لا يكفّون عن ابتلاع البشر
- وأنتَ من هؤلاء عديمي الرحمة الذين يكتفون بواحد فقط
- رحمة؟ ولم يجب أن أرحمهم؟ هذا العقاب هو الرحمة فهم يستحقون أكثر من ذلك، لقتلتُ ذلك الغبي في جوفي بنفسي إن كان بوسعي
- ماذا عنكَ؟ هل تستحق أنتَ القتل؟ صدقني ليس الذين في أجوافنا مَن يستحقون القتل، بل هؤلاء المغتصبين الذين لا يكفّون عن قتلنا، والذين أبادوا بني جنسي وسيفعلون المثل مع الحيتان الغبية أمثالك، أليس ذلك الحوت المقطوع الرأس من فصيلتك؟ أخبرني كم قتلوا منهم؟
- ليس هؤلاء مشكلتنا.. ليس هؤلاء مَن كُلِّفنا بعقابهم، ربما لأن قتلهم لنا ليس خطيئة كما تظن، فليقتلوا الحيتان الغبية مثلي ماذا ستفعل حيال ذلك؟
- ليس لديك فكرة عمّا أفعل حيال ذلك
سئم أطلس من ذلك الحوت وكرهه كما لم يفعل مع حوت ذو جوف آخر، فلم يعبأ بأن يتحدث فيما لا ينبغي له، فقال:
- أتدري.. لم أعد أحتاج مساعدتك، سأنتظر رجالي هنا حتى يعودون
- يعودون من أين؟ ولم ليسوا في جوفك؟
- ألم تكن تعلم؟ إنهم على تلك السفينة لإغراقها وقتل مَن عليها
سكت الحوت وسكنت حركته وبدا مبهوتًا، إلى أن قال:
- سمعتُ بالأمر من قبل لكن لم أصدقه، أنتَ...
- أنا أعمل بما لدي
- أنتَ ملعون!
- لكنني لستُ جبانًا مثلك
- أنتَ لا يجب أن تعيش، كما لا يجب أن يعيش بشر في جوفك...
قالها وهو يندفع بقوة نحو أطلس فارتطم به بعنف جعله يتراجع، ثم تراجع بإرادته لكي يستعيد اتزانه ويَرُد الضربة، فسبح كلاهما فاغري الأفواه تجاه بعضهما، لكن فم الحوت الصائب كان أكبر كثيرًا فأطبقه على فك أطلس وألحق به ضررًا، ثم عادا يتراجعان استعدادًا لجولة أخرى، لكن أطلس باغته بأن اندفع إليه وضربه في جسده وجعله يرتطم بالسفينة، ثم أخذا القتال إلى السطح فاخترقه أطلس أولًا وتبعه الحوت محاولًا أن يمسك ذيله بأسنانه، ثم عاد الحوت يخترق السطح وينقض على أطلس، لكنه فرَّ قبل لحظة من أن يرتطم به، وعاد القتال إلى تحت السطح مرة أخرى.
وقبل أن يندفعا شعر أطلس برجاله في المياه على قوارب صيد الحيتان فعلم ماذا يفعلون، فأراد أن يستدرج الحوت إلى الأعماق لكنه كان قد لاحظهم هو الآخر، فسبح ناحيتهم بسرعة وتبعه أطلس الذي كان أسرع بكثير حتى أدركه، وقبل أن يخرج من السطح عض على جزء يسير من ذيله ولم يضرّه ذلك وأفلت من بين أسنانه، ثم عاد يتوجه إلى القوارب عازمًا على إسقاطها، وتلك المرة لم يتمكن أطلس من اللحاق به أو إيقافه.
★★★
منذ أن أسيقظ دكرور آخر مرة رأى أطلس في منامه؛ وقد تغير شيئًا في داخله، يشعر بالحزن والمقت والسخط من كل شيء وطوال الوقت، ينتظر الإشارة للخروج إلى السطح بفارغ الصبر، بالطبع ليس لكي يتنفس هواء البحر، أو الاستمتاع بالشمس والشروق، لكنه كان يصعد ليُشبع شهوته المستجَدَّة لسفك الدماء.
فكان يقاتل بحماس وشراسة لم يعهدها في نفسه من قبل تجاه أي شيء، فيتقدم أي شيء ويتصدر أي قتال، حتى أن الرجال بدأوا يتعجبون منه وبدوا أنهم يتجنبون سؤاله عمّا أصابه.
لكن لم يستمر ذلك كثرًا، وإذ لم يكن يملك شيئًا غير الوقت، وكما يعالج الوقت كل شيء؛ أخذ يعالج أيًا كان ما أصاب دكرور، وسبَّب له كل ذلك والغضب والكراهية، لم يحدث ذلك بسهولة أبدًا، فبعد شهور بدأ يشعر أخيرًا أنه يعود إلى رشده، إلا أن شراسته في القتال لم تتبدل.
كل مرة كان الرجال يسقطون سفينة كانوا يبحثون في سجلاتها، عن أي شيء مهم، أو أي أحداث وقعت للسفينة، ولم يكن دكرور يعبأ بالتواريخ أو في أي شهر هم، إلا تلك المرة التي علم فيها أنه مر على وجوده في الجوف تمام السنة، ربما مرت كسنة فعلًا، لكنها لم تبدُ كذلك.
وهي نفسها المرة التي أخبر أطلس من كان منهم نائمًا أن يستعدوا لأن يصعدوا في الصقيع بين الثلوج، فاستيقظوا على صافراته الثلاث وأخبروا من لم يكن نائمًا منهم بما عرفوا، فقال سيجورد بضيق:
- آه! ليس ثانيًا
ولم يستعدوا بشيءٍ جديد، وكما أصبحت عادته تقدم دكرور الخروج من الجوف، ولم يجد الفم مغمورًا بالماء كما تعود، وتسلق الأسنان التي تشبه المقشة العظيمة، فلفحه الهواء البارد أول ما خرج، ووجد السفينة بجانبه مباشرةً، يرسو جزء صغير منها إلى قطعة كبيرة من الجليد العائم، فتمسك بها من دون حتى أن يلمس الماء، ووقف على الجليد، وساعد البقية على الصعود، حتى أصبحوا جميعًا على جانب واحد من السفينة، التي كانت تميل قليلًا على جانبها الآخر.
يقترب الشروق من أن يأتي، كان المكان أشبه بخليج أو بحيرة كبيرة يحيط بها شواطئ وتلال جليدية، والجو ضبابي كأن السفينة تعوم على بحرٍ من السحاب، مرفوعة الأشرعة لكن تتمايل رغم ذلك.
كما أن رائحة تلك السفينة كانت كريهة أكثر من المعتاد، ويأتي من متنها أصوات كثيرة مختلطة أكثرها أصوات غناء، مع أصوات الدَّق والتقطيع، فكان كل ذلك مما ساعدهم في تكوين فكرة عما يحدث على متنها.
فصعد موريس يختلس النظر إلى متن السفينة، ولما عاد نظر إليه الجميع في ترقب، فبدا كأنه مبهوتًا وقال بصوت خفيض لمن بجانبه:
- لا يمكننا المهاجمة الآن، إنهم منهمكون في تقطيع الشحم، يجب أن ننتظر فهم مسلحون
انتقلت المعلومة إلى البقية، وقال بوهاردي:
- أنت تعلم أنه لا يمكننا الانتظار
ردّ دكرور:
- انتظروا.. سألتف إلى الجهة الأخرى، وأرى إن اقتربوا من الانتهاء..
ومشى على الجليد بجانب السفينة، وتعلق بها مثل الوَزَغ إلى الجهة الأخرى، فوجد حوتًا إلى جانب السفينة لكنه من دون رأس أو ذيل أو جِلد، فقد سُلِخ كل جلده حتى صار أبيض كقطعة من الجليد لونها وردي تذوب ويقطر منها الدم بدلًا من الماء.
ثم ارتقى بنصف رأسه عن سطح السفينة، فوجدها أشبه بالسلخانة ووجد البحارة قد شارفوا على الانتهاء من تقطيع الشحم، لكن لا زالوا يضعونه ويغلونه في المِرجل العملاق مصدر الرائحة الكريهة، ثم عاد إلى إخوته وأخبرهم أن لم يبقَ الكثير.
وبالفعل سرعان ما هدأت الحركة، وخفتت الأصوات، إلا صوت ورائحة المرجل المتّقد، فألقى بوهاردي نظرة إلى سطح السفينة ثم أشار إلى الرجال أن يتبعوه، وإلى أوساي أن يصعد أعلى الصاري بسرعة، ولم يكن على متن السفينة إلا بضع بحارة يكنسون الدم واللحم والشحم من على السطح، فقضوا عليهم بدون مقاومة تذكر بالحراب والسيوف فقط، ولم يستخدموا الأسلحة النارية إلا بعد أن خرج باقي البحارة على إثر الضوضاء التي افتعلوها عن عمد، وجميعهم لاقى نفس المصير.
انتهوا سريعًا من نقل الجثث إلى الكوثلة، ثم جلسوا بجانب المرجل طلبًا للدفء في انتظار عودة أطلس، وعاد سيجورد من أسفل ببعض المعاطف الثقيلة وقبعات من الفرو، وعاد أوين بإبريق من المزر ودار به على الرجال، ثم رفع بوهاردي كأسه وهو يقول:
- نخب مرور سنة على وجود دكرور معنا، نخب دكرور!
ورددها وراءه كل الرجال، فرفع دكرور كأسه وأومأ لهم بابتسامة ممتنة، ثم نزل أوساي وهو يقول:
- أيها الأوغاد! تحتسون المزر هنا وتستمتعون بالدفء، وتتركوني في الأعلى للبرد ينهش مؤخرتي! ناولني هذا...
وأراد أن يأخذ إبريق المزر من أوين، لكنه أبعده وقال:
- بشرط أن تغني...
- حسنًا!!!
فانتزع الإبريق من أوين، وشرب ما به على جرعة واحدة، حتى سال على رقبته، وجلس وقال بمرح:
- انتظروا قليلًا حتى يأتي مفعوله
فضحك الرجال، وبعد برهة بدأ أوساي يغني أغانيه الكثيرة، التي تعجب دكرور كلها، لكن ليس كما تعجبه الأغنية التي يسميها أوساي "حياتي الأخرى"، والتي دائمًا ما يتركها للآخر:
في حياتي الأخرى.. كان لدي زوجة جَحودة
كان لدينا طفلًا جميلًا.. وعشنا في منزل صغير
في حياتي الأخرى.. لم أكن حيًّا.. لم أكن حيًّا
لم يكن هناك منزل لألجأ إليه
ولم يكن هناك صديق لأذهب إليه
ولم يكن هناك أرض لأهرب إليها
لكن دائمًا كان البحر
في حياتي الأخرى.. كان لدي زوجة خائنة
كان لدينا طفلًا مريضًا.. وانتقلنا إلى منزل أصغر
في حياتي الأخرى.. قد بذلت قصارى جهدي.. بذلت قصارى جهدي
لم يكن هناك منزل لألجأ إليه
ولم يكن هناك صديق لأذهب إليه
ولم يكن هناك أرض لأهرب إليها
لكن دائمًا كان البحر
في حياتي الأخرى.. قتلت زوجتي الخائنة
بعدما مات طفلنا.. فدفنته تحت ركام منزلنا
في حياتي الأخرى.. تركت كل شيء خلفي.. تركت كل شيء خلفي
لم يكن هناك منزل لألجأ إليه
ولم يكن هناك صديق لأذهب إليه
ولم يكن هناك أرض لأهرب إليها
لكن دائمًا كان البحر.. دائمًا كان البحر
أحَب دكرور هذه الأغنية من أول مرة سمعها، فقد كانت هي نفسها التي غناها أوساي في أول ليلة له في الجوف، وأحبّها أكثر عندما فهم معناها.
نهض وهو يترنح من إثر الثمالة لا يعلم هل هو من يترنح أم السفينة، ونأى عن الرجال ليجلس وحده عند مقدمة السفينة حتى غلبه النعاس.
أفاق دكرور إثر ارتجاج السفينة بعنف، فقام يترنح أكثر مما هو، وفكر أنهم قد ارتطموا بالجليد، لكن السفينة كانت ثابتة منذ دقيقة، فنظر يتفقد البحر فوجده مضطربًا إلى حدٍ ما.
ولما أراد أن يعود إلى الرجال رأى أطلس يصعد ويغوص في الماء بعنف شديد، محدِثًا الاضطراب في البحر، وبدا شكله غريبًا فيه شيئًا خاطئًا لكن لم يعبأ دكرور بذلك، فمع هذا القدر من الثمالة يمكن أن يرى أي شيء، ثم هرع إلى البقية بسرعة، فوجد بعض الرجال وقد بدأ الإعياء يظهر عليهم، والبعض الآخر يقف ويشاهد أطلس وهو يتلوّى، فذهب دكرور إلى عمار وسأله بصعوبة:
- ماذا يحدث؟
- إنه يقاتل شيئًا ما..
- يقاتل؟!! يقاتل ماذا؟!
وقبل أن ينتظر الإجابة خرج أطلس من البحر وتبعه أطلس آخر، فكّر دكرور أنه قد ثمل أكثر من اللازم لكي يرى الأشياء تتكرر، إلا أنه بالفعل كان هناك حوتان في المياه.
كان أحدهما أطلس ولم يتبين الحوت الآخر لكنه كان كبيرًا وأسود، وكلاهما كانا مضطربًا يضربان بأذيالهما البحر ويتلوّان بجسديهما ويندفع كل واحد صوب الآخر فاغرًا فمه يريد أن ينهش قطعة من الآخر، فبدا أنهما يتقاتلان بالفعل.
فقال موريس:
- لن أقف مكتوف الأيدي هكذا، فليجمع كل من يقدر على الوقوف
سأله بوهاردي وقد بدا أن بصره قد بدأ يذهب:
- ماذا سنفعل؟
ردّ موريس:
- سنصطاد حوتًا!
ثم رفع قعيرته صائحًا:
- الجميع إلى المتن!
★★★
وقف جميعهم بلا حراك ينظرون إلى موريس باستغراب، فقال بانفعال:
- سيجورد!!
جفل سيجورد وانتبه قائلًا:
- نعم يا سيدي!!
- كنتَ حوّاتًا من قبل.. ستقود ذلك الصيد
رَد سيجورد بسأم وامتعاض شديدين بلسانٍ ثملٍ:
- أه اللعنة عليكَ يا موريس!! كم مرة يجب أن أخبركم أنها كانت أول وآخر مرة، بل أني غرِقت حتى قبل أن يصطادوا الحوت
رمقه موريس بحِدة فعاد يقول بسأم أكبر:
- ماذا تريدني أن أفعل؟!! فقط أنزلوا القوارب وجدفوا نحوه وارشقوه بالحراب، الأمر بهذه البساطة!
- حسنًا أنزلوا القوارب وليجلب كل واحد سلاحًا.. نريد أن نقتله لا أن نصطاده
وقال بوهاردي:
- هذا جنون يا موريس.. هل صِرنا حوّاتين الآن؟
- أتريد أن تترك أطلس يقاتل وحده؟ سنقتل أي شيء يريد قتله يا هاردي
ثم بدأوا بإنزال قاربين بسرعة إلى المياه، ومن دون تخطيط كان موريس يقود قارب وسيجورد يقود الآخر والبقية يجدفون وعلى أفخاذهم تستند أسلحتهم النارية، التي نظفوها جيدًا وحرصوا على ألا تبتل مجددًا، وتوجهوا صوب القتال الدائر بين أطلس والحوت الآخر، الذي اتضح أنه حوت صائب ولم يعلم دكرور لمَ هو صائب، رآه أكثر من مرة في الحلم الأسود الذي أراه أطلس إياه، لكن هذا كان عظيم الجثة مقارنةً بالحيتان الأخرى من ذلك النوع، ورغم ذلك كان لا يقترب من حجم أطلس الأطول والأقوى.
كان القتال قد انتقل إلى تحت السطح المزبد من شدة اضطرابه، والذي بدا كأنه يغلي من اشتعال القتال الدائر بالأسفل؛ عندما وصلوا إليه، جعل تمايل القارب دكرور يفرغ ما في معدته في الماء، وتبعه تاندي الذي احتوى قيئه على شيء من الدماء، بعدها هدأت المياه وسكن القارب، وظلوا مترقبين حتى قال بوهاردي بهدوء:
- تأهبوا!
وقبل أن يتأهب أحد قام سيجورد وأشار أمامه في الماء، وقال بعصبية:
- ها هي... ها هي تخترق السطح!!!
كان سيجورد يشير إلى انتفاخ كبير في الماء يتحرك تجاههم من دون أن يظهر ما تحته، بدا كأنه جنين يتحرك في داخل بطن أمه، وأيضًا قبل أن يرفع أحدهم سلاحه كان الحوت الصائب قد اخترق السطح يريد أن يطير منه صوبهم، لكنه لم يخرج من المياه، إذ كان أطلس من وراءه يعض على ذيله مجبرًا إياه على العودة، أفلت أطلس الذيل من بين أسنانه أو ربما قضم قطعة منه، فعاد الحوت يسبح إليهم ولم يقترب كثيرًا حتى افتتح موريس إطلاق النيران عليه.
انهالت عليه الرصاصات كالمطر فتلقاها الحوت بشجاعة، ربما توتّر جسده وارتعد لكن لم ينثني ولم يتراجع عن محاولة الفتك بهم، ربما لم يزِده ذلك إلا غضبًا، فنزل من تحت القارب الذي عليه موريس، وضربه بذيله فارتفع بعنف عن الماء فطار الرجال من عليه بعنف أكبر.
ثم عاد يتوجه إلى القارب الآخر الذي يقوده سيجورد والذي كان عليه دكرور ودييجو وأوساي ومافي، وكان دييجو لا يزال جالسًا لا يقوَ على الحركة، فقال سيجورد وهو يشاهد الحوت يسبح إليهم:
- اقفزوا الآن!
ثم أراد أن يحمل دييجو، لكن الحوت كان قريبًا وقد فات أوان القفز، فاستوقفه مافي الذي كان يقف بثبات يقول:
- انتظروا! لا تفعلوا!!
قالها ثم التقط أربع حِراب كانت في القارب، فأمسك كل إثنين معًا في كلتي يديه وثبّت أساسها في قعر القارب فكان رأسها لأعلى، ثم اقترب الحوت كثيرًا فاغرًا فاه على اتساعه، وزعق مافي:
- انبطحوا!!
حينها كان دييجو وسيجورد وأوساي ودكرور يضمّون بعضهم في قعر القارب، وكان آخر ما رأوه من الحوت وهو يفتح فمه ويلتقم القارب بمن عليه ويدخله في فمه، قبل أن يظلم كل شيء فجأة، شعر دكرور بالاضطراب من حوله وسمع صوت تهشم القارب بل وشعر بالخشب في جسده، ثم ما هي إلا لحظة حتى سكن وسكت كل شيء.
★★★
سمعوا صوت أوساي يقول:
- هل متنا؟
رَد دييجو:
- هل يبدو لك هذا مثل الجحيم؟! لم نمُت أيها الأحمق!
وقال مافي:
- نحن بخير يا رفاق.. لقد قتلته!
كانت الأربع حراب قد انغرست في سقف حنك الحوت حين أطبق على القارب بفمه العظيم، فقُتِل على الفور بعد أن أغلق فمه على قارب وخمسة رجال، أراد دكرور أن يهنئ مافي ويشيد بما فعل لكن صوته كان قد ذهب بالفعل، ثم قال سيجورد:
- حسنًا أيها العبقري! كيف سنخرج من هنا؟
ران صمت لم يكن مريحًا مع الظلام كالإصابة بالعمى والصمم معًا، قبل أن يرُد مافي:
- حسنًا لا تهلعوا! لا يزال أطلس والبقية بالخارج
بعدها اضطرب المكان وتمايل فأردف مافي:
- أترون.. سيجد موريس وسيلة...
قاطعه دكرور بأن أصدر صوتًا عصبيًّا:
- ششششش!
عندما رأى بصيص نور يقطر من مكان ما وسط ذلك الظلام، فتحسس أقرب أحد إليه حتى أمسك بوجهه ودوّره ناحية النور، وهمس في أذنه:
- انظر!
ردّ سيجورد:
- هل هذا نور سائل؟
همس دكرور بصوت مسموع:
- لا بد أن لهذا الحوت جوفًا
وقال أوساي:
- اللعنة! تُرى هل من أحد بالداخل؟!
بالفعل كانت هناك فتحة تشبه باب جوف أطلس، لكن يبدو أن النور السائل يتسرب منها، وقبل أن يحاول أحد الدخول انفتح الفم شيئًا فشيء ودخل منه نور النهار، فظهر عمار من بين فكّي الحوت يقول:
- هل يعجبكم المكان هنا؟ هل جميعكم بخير؟
قال أوساي:
- يوجد جوف هنا
- حقًا؟!!
ثم عاد عمار يخرج وسمعوه يصيح:
- موريس!! هناك جوف هنا!
وسرعان ما عاد مع موريس وأوين، فقال أوين أول ما رأى فتحة الباب:
- هل من أحد بالداخل؟
رَد أوساي:
- لا ندري
فقال موريس:
- ماذا تنتظرون إذًا؟ لكن احذروا.. ربما يكون السكان غير ودودين
تقدم دكرور الطريق حاملًا بلطة مافي ودفع بنفسه إلى الجوف الغريب.
كان المكان نصفه مظلم ونصفه الآخر مضيء، ويبدو أن الجاذبية في جهة واحدة وليست في كل الجهات مثل جوف أطلس؛ إذ كان النور السائل كله يتجمع في ناحية واحدة وقد انسكب من عروقه مكوّنًا نهرًا أصفر، وجد نفسه عند أول هذا النهر، وعلى الطرف الآخر منه كان يقف إنسان آخَر.
ثم دخل مافي حاملًا دييجو على ظهره، فقال دييجو أول ما دخل:
- اللعنة! هل هذا ما يحدث عندما يموت حوت ذو جوف؟
أسكته دكرور وأشار إلى الرجل وأخذ يقترب منه بحذر، كان يقف في نهر النور السائل الذي يصل إلى أسفل ركبتيه، ولم يكن عليه سوى أسمال بالكاد تستر عورته، وجسده كان ملطخًا بالنور السائل لكن وجهه لم يكن واضحًا، ثم عندما دخل البقية بدأ الرجل يصدر صوت أنين، وإذ لم يروا وجهه فلم يعرفوا إن كان أنين ألم أم بكاء، ثم علموا أنه أنين البكاء عندما بدأ الرجل بالعويل دون أن يرفع صوته بالصراخ.
اقترب موريس رافعًا كلتي يديه وجعل دكرور يخفض سلاحه وقال:
- ششش! لا تقلق يا رفيقي...
هدأ الرجل قليلًا فأردف موريس:
- لا تقلق! أنتَ لستَ وحدك...
وأضاف عمار بجانبه:
- نعم.. نحن أيضًا نسكن في بطن حوت، تعالَ معنا ولن يصيبك أذى
أخرج الرجل أصواتًا خرقاء من حلقه فيما بدا ككلام إلا أنه لم يكن كذلك، فبدا كأنه أصَمّ يحاول الكلام، ثم أمسكه موريس وعمار من يديه وقادوه برفق إلى المخرج وهو لا يزال يتمتم ويبكي.
وخرجوا فأوقفوه على الجليد بقدمين حافيتين، فلم يعبأ الرجل بذلك وأخذ ينظر إلى كل شيء في استغراق وهو يئن كأنه يدندن، فانبهر برؤية الشمس وقد ارتفعت في السماء فاتضح شكله، كان ذو بشرة سمراء بحمرة، وكان نظيفًا من شعره الناعم الطويل إلى قدميه، وجسده مفتول أقرب إلى السمنة منه إلى النحافة، حتى أنه بدا وسيمًا وربما صغير السن.
ثم التفت الرجل وراءه ليجد سجّانه وسجنه الذي هو نفسه لا يعلم كم مكث فيه؛ وأخذ ينشج، وبينما كان الرجال يشاهدونه في تأثر، قال سيجورد:
- هل نأخذه معنا؟
رَد موريس:
- لن أخرجه من جوف حوت حتى أعيده إلى آخَر حتى وإن كان أطلس.. لنتركه ليموت أفضل
ثم عاد الرجل يرمق أفق تلك الصحراء الجليدية التي لا يبدو أن لها آخِر، ثم قال كلمة واحدة واضحة وابتسم وبدأ يسير بهدوء، فقال له عمار:
- انظر! هناك سفينة، ها هي هناك! يمكن أن تعيش عليها...
لكنه لم يعِره أي اهتمام كأنه غير موجود، ثم خلع موريس رداءه ووضعه على كاهله فأزاله الرجل عنه، وأكمل سيره المتأني متوجهًا إلى لا مكان، حتى اختفى وراء رياح الضباب البيضاء.
★★★
(2)
كانت الشمس تقترب من أن تغيب حين خرجوا، ولم تزل كذلك حين انتهوا، إذ إن القتال قد انتهى سريعًا وبدون مجهود يذكر، حرص معظم الرجال على ذلك وخاصةً عمار، فرجعوا إلى الجوف فور أن انتهوا لكي يكملوا لعبة الصاري والمرساة، فقد هزم سامبار وعمار سيجورد ورالف وأقصوهم، وذلك شيء لم يكن يحدث عادةً.
امتنع بوهاردي وأوين عن اللعب، ولم يكن موريس يشارك أصلًا مدعيًا كبر السن رغم أن له قوة وجسد رجل يافع، وتاندي أيضًا لم يكن يشارك لأنه فعلًا قد تخطى الستين وله قوة وجسد رجل في التسعين، فكان على دييجو ودكرور مواجهة الفريق الذي لا يقهر؛ أوساي ومافي، والفائز منهم سيواجه سامبار وعمار.
كان الفريق يتكون من إثنين على الأقل، أحدهم على الأرض يسمى المرساة وآخَر يعتلي ظهره يسمى الصاري، وإذ كان دكرور يصاب بالدوار حين يرى أحدًا بالمقلوب؛ فكان دائمًا مرساة الفريق، وإذ لم يكن بمقدور أوساي أن يحمل مافي أو أي أحد على ظهره؛ فكان دائمًا صاري الفريق.
ومن طقوس هذه اللعبة أنهم يرسمون بالنور السائل على وجوههم وأجسادهم، يرسمون خطوطًا وحلقات وربما يكتبون كلمات فتتوهّج أجسادهم ووجوههم، وبعضهم يبالغ حتى يصبح مخيفًا فعلًا.
استعد الفريقان وأخذا مكانيهما، ووسط غطرسة أوساي وصياحه المزعج، كان دييجو ودكرور يشجعان بعضهما بجدية، ويخططان لطرق للفوز كأنهم على وشك بدء حرب، وانتهى دييجو من الرسم على وجه دكرور، ثم قال دكرور لدييجو وهو يرسم حلقات حول ذراعه:
- ذلك القزم لن يصل إلى رأسي على كل حال، اضرب أنت رأس مافي، ولا تجعله يمسك بكَ
- حسنًا أعرف كل ذلك، لكن اسمع...
التفت دييجو ليتأكد من أن لا أحد يسمعه وهمس في أذن دكرور:
- عند إشارتي أريدكَ أن تدور حول نفسكَ وتشدني بكل قوتك فهمت!.. ولا تفلتني حتى وإن ترجيتكَ أن تفعل، وسأجعل ذلك الأحمق الصغير يتمنى لو ولد رجلًا صحيحًا
كانت المباريات غالبًا ما تنتهي عندما يطلب صاري الفريق من زميله المرساة أن يفلته بسبب الألم الذي يعانيه على يد صاري الفريق الآخر، فاز دييجو من قبل لأنه لوى ذراع أوين حتى كاد أن يكسره.
أومأ دكرور استحسانًا لكلام دييجو، ولم يعبأ بتشجيع البقية ومراهنتهم على فوز أوساي ومافي، في الحقيقة لم يكونوا يملكون أي شيء ليقدموه للفائز أو يراهنوا به؛ سوى متعة الشماتة في الخاسر وكل من راهن عليه.
ارتقى دييجو ظهر دكرور، وتسلق أوساي ظهر مافي، وبدأ القتال عند إشارة رالف.
لم يكن بمقدور دكرور أن يرى شيئًا مما يحدث أعلاه، لكنه علم أن المناوشات قد بدأت، وسرعان ما انتهت حين اضطرب دييجو على أكتاف دكرور فعلم أنهما قد اشتبكا، ثبَت دكرور قدر استطاعته وحاول أن يشد دييجو بأن ينخفض بجسده، لكنه بدلًا من ذلك كان يُسحَب لأعلى، إذ كان مافي بقوته وجسده الهائلين يسحب دييجو ودكرور معًا بعد أن تشبث أوساي بقوة بدييجو، كان مافي سيفوز إذا نجح أوساي في إسقاط دييجو على أرضه، لكن مافي وحده كان قادرًا على إسقاط دييجو ودكرور معه أيضًا.
حاول دكرور بكل قوته أن يقاوم سحبه لأعلى دون جدوى، ثم حين بدأت قدماه ترتفع عن الأرض سمع صرخة تألم من أوساي فعلم أنها الإشارة، فاستجمع ما تبقى من قوته وركز ثقله لتعود قدماه إلى الأرض، وما أن فعل حتى دار حول نفسه ودوّر معه دييجو فعَلت صرخات أوساي، فأغمض عينيه بقوة وزاد تركيزه وركز قوته على ثقله وسحب دييجو حتى بدأ ينحني، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يجثو على ركبتيه، ولم يلاحظ زوال حمل دييجو من على ظهره، إلا بعد أن فتح عينيه ووجد أوساي مستلقيًا أمامه.
ضحك دكرور بشدة وسط غمغمات أوساي بالسباب وأنين التألم، ووسط دهشة وصمت الجميع، ثم انضم إلى دييجو في احتفاله الصاخب ليستلم جائزته، فرقصا معًا بحماس وصخب وهما يغنيان أغنية حياتي الأخرى بطريقة مرحة عكس ما يغنيها أوساي نكايةً فيه، فنهض أوساي وهو يقول بغضب جعله مزعج أكثر مما هو:
- أيها الحقير! لن أترككَ تغش أيها الوغد!
قال دييجو بتهكم شديد وهو يقف بجانب دكرور:
- أهذا حقًا! أتعلم كيف غششت يا سيد دكرور؟
- لا، لا أعلم كيف غششت يا سيد دييجو
- لقد ولدتُ رجلًا طويلًا!
عندها ضحكَ الجميع حتى أوساي، ثم قال سامبار وكان عمار على كتفه:
- تعالا وقاتلا أحدًا من حجمكما أيها الحمقى!
كانت ميزة عمار وسامبار أن كلاهما كانا طوال القامة والأطراف، غير ذلك فقد كانا رفيعان وضعيفا البنية، استغل دكرور ودييجو فورة حماسهما وأعادا تشكيل الفريق بسرعة، دون تخطيط أو تشجيع، وتلك المرة كانت الرهانات الأكثر على دكرور ودييجو، ثم عند إشارة رالف بدأ القتال.
ودون سابق مناوشات أو تمهيد للاشتباك تفاجأ دكرور بضربة على وجهه، وحين أراد أن يتراجع وجد أن دييجو قد اشتبك بالفعل، فأخذ دكرور يسحبه ويركز ثقله، لكنه تفاجأ بضربة أخرى وتلك المرة كانت في بطنه فجعلته ينحني ويمسك بطنه ويرخي قبضته حول ساقي دييجو، وشعر به يسحب من فوق كتفه، وحين استعاد اتزانه وجد دييجو وقد رُفِع عنه تمامًا، فجذبه من قدميه في محاولة أخيرة يائسة لاستعادة الفوز، لكن في تلك المرحلة كان كلًا من عمار وسامبار يسحبان دييجو أمام دكرور وحده، فلم يكن أمامه سوى أن يفلته.
ورغم أن دكرور هو الملام على تلك الخسارة، إلا أن دييجو لم يلُمه وصمد بجانبه أمام شماتة الشامتين وأوساي بالأخص، وأخذ هو وعمار وسامبار يغنون ويرقصون من حولهم.
وأثناء ذلك كان قد بدأ قتال آخر ومشهد لم يروا مثله من قبل، إذ كان أوين يعتلى ظهر بوهاردي وأمامهم كان تاندي يعتلي ظهر موريس، وسرعان ما التف الجميع حولهم، لا يعلمون على من يراهنون أو من يشجعون رغم أن الفوز محسوم لأوين وبوهاردي، ولم تكن هناك فرصة لتاندي وموريس، وقال سيجورد لتاندي مازحًا:
- ماذا تفعل أيها العجوز؟! ستتسبب في قتل نفسكَ
وأضاف عمار:
- انسحب الآن قبل أن تكسر ظهرك يا موريس!
وقال أوين:
- أتركوهم يا رفاق.. سأجعلهم يخسروا بكرامة تليق بسنهم
ردّ موريس:
- نريد فقط أن نريكم كيف تُلعب هذه اللعبة
ثم قال رالف:
- حسنًا هذا خياركم! فليبدأ القتال!
بدأ القتال بالحذر من كلا الفريقين، يتناوش أوين وتاندي بالأيدي ويتراجع بوهاردي وموريس، وفور أن اشتبك الصاريان أخذ المرساتان يشدان إلى أسفل، ثم كان يجب على موريس أن يتمسك بساقي تاندي، لكنه جازف ورفع نفسه وأمسك برداء أوين وعاد يجذبه إلى أسفل بمساعدة تاندي، الذي أخذ يضرب رأس بوهاردي لكي يجبره على ترك ساقي أوين، وبالفعل بدأ بوهاردي يفلت أوين شيئًا فشيء حتى يئس فتركه يرتفع عنه ببساطة كأنه يسلمه إليهم بنفسه.
تلقى بوهاردي الهزيمة بتواضع على عكس أوين الذي لم يكن يقبل الهزيمة بسهولة، كما احتفل تاندي وموريس بتواضع أيضًا، حتى استفزهم سامبار:
- ما رأيكم أن ننهي اليوم بقتال أخير؟ كما أنكم لا زلتم تبدون أنكم تريدون ان تخسروا بكرامة تليق بسنكم
ردّ موريس:
- بحقكَ! ألم تكتفِ بالفوز مرتين في يوم واحد؟
وقال عمار:
- هل تخشى أن يصبحوا ثلاث مرات؟
بدا على تاندي أنه يرحب بالأمر، وبدا على موريس الضجر وهو يوافقه، وسرعان ما نظموا قتالًا أخيرًا.
لم يحدث طوال فترة وجود دكرور في الجوف وهي قرابة الثلاث سنوات؛ أن فاز عمار وسامبار مرتين، أو خسر مافي وأوساي، أو شارك تاندي وموريس، وكل ذلك في يوم واحد.
وما أن ارتقى تاندي ظهر موريس وارتقى عمار ظهر سامبار، وقبل حتى أن يشير رالف ببدء القتال؛ استوقفهم أطلس بصافراتٍ ثلاث، فتسمر الجميع في أماكنهم؛ إذ إن آخر مرة سمعوا تلك الصافرات كانت منذ ساعة، ولم يحدث من قبل أن خرجوا لاصطياد سفينتين في أقل من ساعة.
★★★
نزل تاندي من على ظهر موريس بعد صمتٍ طال، وقال أوين متعجبًا:
- لم تمر ساعة منذ آخر صيد!
ردّ موريس:
- ربما قد مر أكثر من ذلك خارج الجوف
وقال دكرور في حيرة:
- ألم تخرجوا أكثر من مرة في يوم واحد من قبل؟
أجاب بوهاردي:
- بلا.. لكن لم يكن بتلك السرعة، لا بد وأنه أمر مهم، هيّا فلنستعد!
تناول كلًا منهم حربته، من دون أسلحة نارية سوى لرالف وموريس وحتى تلك لم يكن بها كفاية من الذخيرة أو البارود، لأنهم عادوا سريعًا في آخر مرة دون أن يجلبوا معهم أي أسلحة أو ذخيرة من السفينة.
التشكيلة المعتادة أن يكون بوهاردي ورالف وأوين وأوساي ودييجو؛ على إحدى جانبي السفينة، وموريس ومافي وعمار وتاندي ودكرور وسيجورد؛ على الجانب الآخر، لكن تلك المرة كانوا على جانبين مختلفين من سفينتين مختلفتين.
كانوا في الماء بين سفينتين كأنهم في وادٍ بين ضفتي نهر، ومن فوقهم ضُرِب ثلاثة جسور خشبية تصل بين السفينتين، إحدى السفينتين كانت سفينة تحويت عادية وتلك يعرف الجميع شكلها جيدًا، أما الأخرى فكانت أكبر وتبدو أقدم وتلك التي كان بوهاردي والبقية على جانبها الآخر.
قال سيجورد أولًا دون أن يبدو عليه التهكم كعادته:
- اللعنة! هل يريد أطلس قتلنا؟
ثم قال عمار وهو ينظر إلى سفينة الحيتان بإمعان:
- مهلًا! أليست هي السفينة نفسها من آخر مرة؟
قال موريس بعصبية وهو يتفقد الجسر الخشبي من فوقه كل بضع ثواني، ويرفع بندقيته فوق الماء:
- اللعنة! ألم تخرقها يا مافي؟
ردّ مافي:
- لقد خرقتها لكن... هل أنت متأكد أنها هي يا عمار؟ حسنًا انتظروا...
ثم غاص في الماء وسبح أسفل سفينة الحيتان، وأثناء ذلك تراجع الرجال يتوارون بجانب السفينة الغريبة حين رأوا اثنين من البحارة يعبرون الجسر من الحوّاتة إلى السفينة الأخرى، ثم عاد مافي وقال وهو يلتقط أنفاسه:
- إنها هي.. لقد... لقد أصلحوا الخرق..
فقال دكرور لموريس:
- هل أذهب وأخبر بوهاردي؟
- لا يجب أن نبقى هنا، سنذهب كلنا...
وغاص موريس وتبعه البقية من تحت السفينة إلى الجهة الأخرى، ولاحظ الشمس وقد غاب نصفها لكن لا تزال تضيء نصف العالم، فعلم أنهم لم يكملوا الساعتين في الجوف، ثم قال بوهاردي لموريس أول ما رآه:
- ماذا سنفعل يا موريس؟
- لقد جئتُ لأسألك نفس السؤال
ثم قال رالف:
- هل يعلم أحد ما شأن أطلس وتلك السفينة؟
بدا على الجميع التعجب فقال دكرور:
- وما شأن هذه السفينة؟
- أعني لماذا يريدنا أطلس أن نغرق سفينة قراصنة؟
تلقى الجميع الكلمة بأن عجزوا عن الكلام بعدها، إلا سيجورد فقد قال باندهاش وبصوت عالٍ:
- قراصنة؟!! هل هذه سفينة قراصنة؟!!!
وقال موريس بثبات:
- هل هذا صحيح يا دييجو؟
- نعم.. ألم ترَ العلم؟
وسبحوا مبتعدين ونظروا أعلى الصاري، فكان علمًا أحمر عليه جمجمة وتحتها عظمتين معقوفتين، ثم أضاف بوهاردي:
- مهلًا! ألم تكونوا تعرفون؟، لماذا عدتم إذًا؟
- لقد عدنا لنخبركم بشيء آخر
قالها موريس فضحك سيجورد كعادته، مما أضحك موريس كغير عادته في مثل هذه المواقف التي تحتاج منه الثبات، ثم أردف:
- هناك حوّاتة على الجانب الآخر وقد ضربوا جسرًا بين هذه وتلك، وليس هذا كل شيء...
أردف موريس بعد أن عاد إلى جدّيته:
- إنها هي نفس السفينة التي اصطدناها آخر مرة منذ ساعتين
تلقى الجميع الكلمة بأن عجزوا عن الكلام بعدها، إلا أوساي فقد قال باندهاش وبصوت عالٍ:
- متأكد؟ ألم تخرقها يا مافي؟
- لقد أصلحوا الخرق
وران الصمت على جميعهم بعدها لمدة طويلة، حتى بدأ الأمر يصبح غريبًا، ثم قطع دكرور ذلك الصمت بأن قال:
- ما بكم يا رفاق؟ إنها سفينة مثل أي سفينة أخرى، وسنسقطها كأي سفينة أخرى
ردّ دييجو على الفور:
- إذا أردت أن تقتل نفسك أيها الغبي فتفضل! سفينة بهذا الحجم ربما عليها أكثر من مائة قرصان محترف وليس حفنة من الحوّاتين الأغبياء، اسمعوا.. يجب أن نعود إلى الجوف الآن بينما يمكننا ذلك
وافقه البعض ومنهم أوين، الذي قال وهو يشير ناحية المغيب:
- أطلس هناك، ما علينا سوى أن نسبح إليه.. هيّا بنا!
لكن استوقفهم عمار قائلًا:
- مهلًا يا رفاق! ربما لدي فكرة أخرى...
ثم سكت وبدا أنه يحاول إخفاء ابتسامته السعيدة، وأردف إلى موريس:
- أعلم أنه مرّ كثيرًا على ذلك اليوم، وأنك لا تزال ساخطًا عليّ.. لكن... لم لا نفجر هذه السفينة؟
حكى عمار لدكرور من قبل عن أنه فجّر إحدى سفن التحويت، بعد أن أضرم النار في مخزن براميل الزيت، مما كاد أن يهلكهم، فغضب الجميع خاصةً موريس وحتى أطلس، ثم علم دكرور دون أن يخبره أحد أن عمار مهووس بإشعال النار وبمشاهدة الأشياء تحترق؛ عندما رآه أكثر من مرة يحدّق في مصابيح الزيت في ذهول.
رَد عليه أوين على الفور:
- لماذا أصبحتم جميعًا بهذا الغباء؟! لا يوجد مئات من براميل زيت الحيتان على هذه السفينة أيها الأحمق!
واستدرك عليه دييجو:
- بل يوجد ما هو أفضل من براميل زيت الحيتان على هذه السفينة يا أوين.. يوجد مئات من براميل البارود!
★★★
وعادوا إلى صمتهم الذي يجعل جميعهم أغبياء، حتى قال موريس وهو ينظر إلى الماء في شرود كأنه يكلم نفسه:
- ولم لا؟!.. سأقبل بذلك، حسنًا يا رفاق ستكون الخطة كالآتي...
ثم أكمل كلامه إلى الرجال:
- لقد حلّ الظلام بالفعل.. سنتسلل إلى كوثل تلك السفينة ونفجر مخزونها من البارود، من دون أن يشعر بنا أحد، ومن دون استخدام أي أسلحة نارية، ولن نقتل منهم أحدًا إلا للضرورة، هل فهمتم؟
ولم ينتظر إجابة فأردف:
- والآن يا بوهاردي ستعود مع تاندي ورالف إلى الجوف، وليس أنت يا دييجو سأحتاجكَ معي
اعترض الجميع رغم أن ذلك ربما سيودي بحياتهم قبل حتى أن يقاتلوا، رغم محاولات موريس لإقناعهم، حتى سئم منهم، ثم تسلق جانب السفينة بحبل وارتقى برأسه ليتفقد المتن، ثم عاد وقال:
- المكان هادئ، أوساي! ستتسلق أعلى الصاري كالعادة لكن عُد فور أن تنتهي، وسنقضي على أي أحد لا يزال على المتن، ثم سأنزل مع دييجو وبوهاردي ومافي ودكرور إلى المخزن، وسيبقى البقية على المتن تحسبًا لأي شيء
صعد موريس أولًا وتبعه البقية بهدوء، وكان سطح السفينة مضاءً إلى حدٍ ما، فوجدوا المدافع على جانبي السطح، ورأوا سفينة الحيتان مظلمة موحشة، وما أن صعد دكرور ومافي وسيجورد نبههم موريس، وأشار إلى رجلين كانا جالسين يتسامران بجانب الدفة عند من مؤخرة السفينة، ثم أشار إلى بوهاردي وتاندي إلى رجل آخر بدا نائمًا، ثم تقدم مافي المسير مع دكرور وسيجورد نحو الرجلين، وما أن اقتربوا كفاية لكي يروهم قال سيجورد بعفوية:
- أه! ها أنتم ذا! كنا نبحث عنكم
فأسرع دكرور إلى أحدهما ووضع يدًا على فمه وحزّ عنقه باليد الأخرى، وقضى مافي على الآخر بسهولة، ثم أخذ سيجورد زجاجة خمر كانت معهما وجرّد دكرور ومافي الرجلين من أسلحتهما، ورجعوا إلى البقية فوجدوا أوين يقف أمام باب القمرة التي أسفل سطح الدفة العالي، فذهب سيجورد إليه ودخلا القمرة شاهرين أسلحتهم، ثم أشار موريس إلى دكرور ومافي أن يتبعاه إلى أسفل مع دييجو وبوهاردي، وبقيَ بقيتهم على المتن.
وفوجئوا حين وجدوا أن المستوى الأول من الكوثلة عبارة عن مهجع ينام فيه عشرات البحارة على الأرض وعلى أسِرة متأرجحة، وظلوا برهة يتفقدون المكان قبل أن يأمر موريس دكرور أن يبقى هنا وهمس في أذنه:
- اجلب من بالأعلى واحرسوا هذا المكان
وأكمل موريس نزوله، وصعد دكرور ثم أشار إلى تاندي ورالف ليعودا معه وأخبرهما أن يحرسوا المكان، فتأهب ثلاثتهم وأمامهم أسلحتهم.
جال دكرور ببصره في المكان وحاول أن يعد النائمين، لكنه لم يكمل العد وقد علم أن دييجو كان على حق حين أخبره أنهم أكثر من مائة قرصان.
وظل مع رالف وتاندي يقف ثلاثتهم حذرين متأهبين، ثم همس رالف:
- تاندي! عُد إن أردتَ.. أعلم أن هذا المكان يذكرك بماضٍ مؤلم
قال تاندي:
- لا بأس يا رالف! لقد نسيتُ حياتي قبل الجوف بالفعل.
قال دكرور بمرح:
- بل يجب أن تخبره أنه على موعد لملاقاة عمار وسامبار لكي يعود
ضحك مع تاندي بصوت، فزجرهما رالف حين اشتدت جلبة من أعلى، فتوتروا أكثر وألصقوا ظهورهم إلى بعض، متأهبين بأسلحتهم أمامهم، حتى شعر دكرور بتاندي يبتعد عنه، فالتفت إليه ليجد أمامه رجلًا يفرك عينيه من النعاس، فتقدم تاندي خطوة واحدة وهو يصوب حربته أمامه، وانغرس رأسها فقط في صدر البحار، فعاد يسحبها فسقط الرجل صريعًا محدثًا جلبة لم توقظ الجميع لكنها أيقظت الكثير.
اختبأ كلًا منهم في ناحية مختلفة في أماكن مظلمة، وتعثر أحد البحارة بجثة صاحبه، وقبل أن يصرخ ويوقظ الجميع، استوقفته رؤية موريس يصعد أولًا، ومن وراءه دييجو ومن وراءهم مافي وبوهاردي يسكبان الزيت من برميل في ثبات في خط مستقيم أمامهما.
أشهر الرجل مسدسه ففعل موريس المثل وصوب بندقيته، وخرج رالف من مخبأه يصوب مسدسه نحو آخَر قد انتبه لهم، فتبعه دكرور وتاندي، وصرع تاندي رجلًا آخر بحربته، فصاح موريس بسرعة:
- أشعلها يا هاردي!!!
وبدأ تبادل إطلاق النيران بين كل من يحمل سلاحًا، فاستيقظ مائة قرصان من نومه، وهرع مافي ودييجو إلى أعلى، وأخذ بوهاردي مصباح زيت معلق وألقاه على خط الزيت المسكوب على الأرض الذي صنعه بنفسه، فسارت النار عليه ونزلت إلى أسفل فزعق بوهاردي:
- أهربوا الآن!!!
وركض يصعد أولًا وتبعه رالف، وتبعهم دكرور زحفًا ليتفادى الطلقات العشوائية بين البحارة وبعضهم بعد أن نفدت ذخيرته، ثم بدأ يرتقي السلم إلى المتن، والتفت وراءه ليجد موريس ينحني ويجر تاندي من يده، فعاد وشدّ تاندي وجره بصعوبة صعودًا على السلم، ثم حمله هو وموريس، وحين رأى دكرور بعض الرجال لا زالوا على السطح صاح فيهم:
- ماذا تنتظرون أيها الأغبياء! أقفزوا!!!
ولم يمتثل أحدًا للأمر إلا بعد أن خرج القراصنة يطلقون رصاصاتهم العشوائية، فقفز الجميع من السفينة وحمل دكرور تاندي وحده وقفز به، وأول ما غاص وجد وابلًا من الطلقات تغوص معه، فاحتوى جسد تاندي ليقيه من الطلقات، بعدها مباشرةً وجد أطلس وقد أطبق بفكيه على كليهما، وسمع دكرور أخيرًا الصوت المدوي لانفجار سفينة.
وضع دكرور تاندي على الأرض بحنان، وأدرك عمار يقول بغضب واستياء شديدين:
- اللعنة على ذلك؟ لم أشهد الحريق!
ضحك الجميع ولاحظ دكرور أن صوته لم يكن قد ذهب حتى الآن، وتعجب من ذلك؛ إذ إنه يظل أبكمًا لفترة بعد أن يعود إلى الجوف، ولاحظ دييجو واقفًا مستقيمًا لم يفقد قدماه حتى الآن، وأن بوهاردي لم يفقد بصره حتى الآن، ورالف يضحك وفي أتم عافيته، لاحظ كل ذلك ونظر إلى تاندي فوجده نائمًا كما تركه.
ردّ موريس على عمار بسخرية:
- أه! هذا من حسن حظنا.. كي لا تزعجنا بحكاية سفينة القراصنة هي الأخرى
قال عمار:
- سألقنكَ درسًا أيها العجوز!
قالها وارتقى ظهر سامبار ليكمل مباراته مع موريس وتاندي، ثم أردف:
- هيّا! أين صديقك العجوز الآخر؟
كان دكرور لا يزال ينظر إلى تاندي باستغراب، حتى جثا بجانبه وتحسس صدره بحثًا عن شيء لا يريد أن يجده، وحين لم يجده مسح على رأس تاندي وانحنى ووضع أذنه على صدره ليسمع صوتًا يريد بشدة أن يسمعه، وأثناء ذلك كان أوساي يقول بتوتّر لدكرور وهو يشاهد ما يفعل:
- ماذا تفعل يا دكرور؟! لا يا دكرور!! لا تفعل ذلك.. لا تسمع دقات قلب تاندي، لماذا تسمع قلب تاندي؟
لم يسمع دكرور أي شيء لكنه لم يُرِد أن يصدق أي شيء، حتى رفع يده عن رأس تاندي ووجدها مخضبة بالأحمر، بدأ أوساي في البكاء فور أن رأى يد دكرور، ونظر دكرور إلى حيث كان يضع يده فوجد فجوة عميقة في رأس تاندي أخفاها شعره الأشعث وبشرته السوداء.
بدأ البعض في النحيب بسرعة، والبعض الآخر لا زال لا يصدق مثل دكرور، وأطلس لا يكف عن الغناء بصافرات غليظة وطويلة وعميقة، ثم قال سامبار قبل أن يبكي إذ كان بالفعل على وشك أن ينفجر:
- مهلًا يا رفاق! انتظروا! انتظروا!!! لا زال بإمكاننا إعادته
وما أن أنهى كلامه أمسكه بوهاردي من تلابيبه بعنف شديد وألصقه بجدار الجوف القائم وقال بغضب:
- لا تفكر في الأمر!
فقال دكرور بهدوء كأنه يتكلم في أمر طبيعي:
- لا أعلم يا سامبار، لقد مات خارج الجوف، كما أن ذلك حدث فجأة
فردّ عليه أوساي:
- وبوهاردي أيضًا مات خارج الجوف
تركَ بوهاردي سامبار وتوجه نحو أوساي عازمًا على قتله فتراجع الأخير، ثم توقف بوهاردي حين قال موريس وهو يجثو بجانب جثة تاندي بعينين شاردتين تذرف الدمع دون أن تبكي:
- إن كنا سنفعلها فسأفعلها أنا، أنا من أودى به إلى هلاكه
فقال بوهاردي مخاطبًا الجميع وقد رفع صوته بانفعال:
- والآن اسمعوا جميعكم.. لقد مات تاندي كما يموت البشر.. مات تاندي كما يموت الرجال.. ولا سبيل لإعادته، لا تظنوا أن انتقال الروح من جسد إلى آخر أمر جيد.. إنه لعنة! ورغم أنني ممتن لبيدرو ولما فعل لكنه لعنني حين فعلها، ولن أسمح لأحد بتكرار الأمر بأن يلعن تاندي هو الآخر...
فسكت ليقاوم البكاء وعاد يكمل:
- لقد مات تاندي ابن بوتوي وهو يفعل ما أراد أن يفعل، لا يهم إن كان ما يفعل شرًا أو إجرامًا، لكنه فعله من أجلنا ومن أجل أطلس، وهذا يكفي لأن يجعلنا نحبه ونكرمه، وإذا أردنا أن نردّ له ما فعل فلنكرمه بأن نتركه يرحل بكرامة تليق به
★★★
(3)
مرت أيام عديدة منذ أن مات تاندي ولا يزال أطلس يشعر بالفقد والحزن والندم والتأنيب، لم يكن يعلم ماهيّة تلك المشاعر حينها، ربما سيعلم بعد ذلك، لكن حينها كان يعلم فقط أنها تلك هي المشاعر عندما تفقد أحدًا.
ولأنه لم يكن يعرف أسماء للأشياء، ولا يعرف تسمية لمشاعره؛ فلم تكن تلك المشاعر تعلق معه كثيرًا مثلما تفعل مع البشر الذين يعرفونها ويسمونها ويستحضرونها متى أرادوا، بل ويمررونها لمن حولهم.
وربما غضِب على رجاله قليلًا وعاتبهم لكنه شعر أنه أولى بذلك العتاب، إذ كان يعلم حينها أن تلك السفينة لا تصطاد الحيتان، ومع ذلك فضّل إخراج الرجال إليها تحسّبًا.
ورغم أنه كان ممتنًّا جدًا للرجال على قتلهم ذلك الحوت، إلا أنه شعر بالغرابة أنهم -وهو معهم- فعلوا الشيء الذي لطالما حاربوه، فلم يكن يتخيل في يوم أنه سيقتل حوتًا، لكنه علم أنه الصواب على كل حال، ومنذ ذلك وهو بالكاد يدعهم يخرجون سواء لسفينة أو لغيرها، ويكاد خروجهم ينعدم من بعد حادثة تاندي.
وكان قد انعدم شعوره بالحيتان الرمادية بعد أن كان قويًا ومتكررًا، لم يعلم شيء من ذلك الحوت البغيض سوى أنهم لا يعيشون في المحيط الأطلسي، فلم يزِده ذلك إلا حيرة وصعوبة في البحث، وطوال تلك الفترة وهو يجوب المحيط الهادي بحثًا عن كيانج صديقه، علّه يعرف شيئًا عن الأمر أو عن ذلك الحوت، لكنه نادرًا ما ينجح في إيجاده في المحيط الهادي الشاسع، وبين الحين والآخر كان يزور نون في محيطه الهندي، وهذا أيضًا لا يجده كثيرًا.
وفي مرة كان عائدًا إلى الأطلسي ليجد حوت عنبر يغني أغنية، كان حوت عنبر عاديًا، لكن الأغنية كانت مميّزة لا تصدر عن حوت عادي، واقترب منه أطلس فاتضحت له الأغنية أكثر: "اتّبِع من يشبهني وستجدني".
كانت تلك هي الأغنية التي يجعل نون حيتان العنبر تغنيها إذا أرسلهم في طلب أطلس، فسبح إلى الحوت ليجد من وراءه حوت آخَر، وكلما وصل إلى أحدهم وجد آخَرًا وراءه، وجميعهم يبدون مضطربين فيهم شيء غريب، وجميعهم يغنون نفس الأغنية في تكرار مزعج، لم يكن نون يستدعيه بتلك الطريقة إلا لأمر مهم، لذلك كان أطلس متحمسًا لأنه ربما يكون علِم شيئًا جديدًا عن حيتانه.
قلّت الحيتان وخفَت صوت غنائها حتى اختفى، وحينها رأى نون أسفله عند بداية ظلمة الأعماق، تطوف من حوله عشرات من أسماك القرش البغيضة لكن لا يقتربون منه، فسبح إليه فتفرقت أسماك القرش خائفة، ولم يلحظ كم هو ساكنًا حتى رأى حربتين في ظهره يرتفع من أحدهما حبلًا إلى سفينة على السطح، ولم يشم رائحة الدماء إلا بعد أن اقترب أكثر.
رأى ذلك المشهد ربما آلاف المرات، لكن لم يتوقع أبدًا أن يجد نون في هذا المشهد، يعلم أطلس أنه ليس ميتًا فأدرك أنه نائمًا، والرجال في جوفه أقل مما يذكر، فتوجه إليه وأخذ يحركه حتى أفاق نون من إغمائه، وقال بوهن بعد برهة من استيعاب ما حوله:
- أطلس.. أنا أموت والرجال في جوفي... ليس في جوفي سوى الجثث
- أخبرني كيف حدث ذلك
- تلك السفينة.. إنها لا تصطاد الحيتان إنها... لا أدري، أنا لا أستطيع التنفس
ابتعد عنه أطلس وتوجه إلى السطح ليرى تلك السفينة عن كثب، لكن استوقفه نون:
- لا تفعل، لا تصعد.. لا يهم الآن، يجب أن تذهب فهناك حوت شارد على اليابسة القريبة، اذهب وانقذه فهو يحمل رسالة إليك
- أي رسالة؟
- كنت أريدك... إنه... أنا أختنق يا أطلس، يجب أن أصعد...
بدأ نون يرتقي بهدوء نحو السطح، فقال أطلس:
- لا، لا تذهب.. ابقَ معي.. أخبرني أنتَ بمَ تريد
- أتدري.. لا يهم أن أموت ويقطعوني إلى أشلاء، لكن لن أموت مختنقًا.
استمر نون في صعوده حتى خرج من الظلام فرأى أطلس فجوات في جسده تنضح بدمائه، وأثناء ما كان يصعد معه كان الرجال النائمون في جوفه يشاهدون الأمر كله، ثم لم يتركه إلا بعد أن نفث آخر زفرة.
بعدها توجه أطلس بسرعة إلى أقرب يابسة إليه، وقد أخبر رجاله أن يخرجوا لإنقاذ حوت شارد عليها، فخرجوا وأتموا الأمر بنجاح بمساعدته، لم يكن أطلس يسمع الأصوات التي فوق سطح الماء، لكن حين عاد الحوت إلى المياه شبه حي سمعه يغني: "الحيتان الرمادية.. إنهم كثيرون ومنعزلون ومتوارون، متوارون عن البشر وعن الحيتان وعن المحيط، إنهم في أكبر المحيطات وأظلمها، يعيشون عند شاطئ المحيط ذو الشاطئ الذي لا ينتهي"، وقد كانت تلك آخر كلمات يغني بها الحوت، فقد مات بعدها.
★★★
كان بوهاردي وأوساي وسامبار وعمار؛ على متن السفينة يقفون عند سورها، ينظرون إلى سفينة أخرى واقفة بثبات بجانبهم، يخرج منها حبلًا يصعد إلى السماء حيث كانت سفينة أخرى، لم تكن تتحرك رغم أن جميع أشرعتها كانت منزلة وتضربها الرياح بقوة، وكان يطفو من حولها قطع وشظايا من الخشب الأسود، فكان جسم السفينة محطمًا وبه فجوات سوداء كأنه ضرب بالمدافع، حتى أنهم تعجبوا من أنها لا تغرق.
لم يلفت انتباههم كل ذلك بقدر البحارة الذين كانوا على متنها، وبدا عليهم الخوف لما وجدوهم جميعًا موتى غارقين في دمائهم، حتى قال بوهاردي:
- مهلًا! أعرف هؤلاء.. هل تذكر يا أوساي؟، إنهم... لقد قابلناهم من قبل، إنهم سكان الحوت الآخر.. ألا تتذكر يا سامبار؟
رَدّ سامبار:
- هل أنت متأكد يا بوهاردي؟.. كان ذلك منذ زمن
- نعم متأكد، أنا لا أنسى وجهًا رأيته
فقال أوساي:
- بالفعل يبدون مألوفين كثيرًا
ثم قال أطلس:
- أنت محق يا بوهاردي.. إنه "نون" الحوت الذي قابلتموه من قبل، وهؤلاء هم رجاله...
- ماذا حدث لهم؟
- نون على شفا الموت، ورجاله.. إنهم كما ترون ميّتون بالفعل، لم أكن موجودًا حينها، لكن سفينة صيد حيتان هي ما فعل هذا، لا أدري كيف.. لقد كان نون عظيمًا ومهيبًا.. لا أدري كيف تجرأوا!!
- ماذا عن رجاله؟ هل كانوا يفعلون مثلما نفعل؟ أعني اصطياد سفن الحيتان
- نعم.. وكانت تلك إحدى السفن...
قاطعه بوهاردي:
- لقد أصبحوا أكثر جرأة.. يجب أن نرُدّ لهم ما فعلوا
- لم أعد أريد أن تعرضوا حياتكم للخطر
قال بوهاردي في امتعاض وسأم:
- بحقّك يا أطلس! نحن نفعل ذلك منذ عشرات السنين، فقط لا تقلق.. نحن لها
وقبل أن يتلقى بوهاردي ردًا قال أوساي بانفعال وهو يشير إلى السفينة:
- يا رفاق!.. انظروا! هناك شيء يتحرك... إنها إحدى الجثث
وبالفعل كان هناك رجل يعتدل جالسًا بعد أن كان ممددًا، فتساءل عمار:
- كيف لا يزال على قيد الحياة؟!
ثم هرع الرجال إليه، فاستوقفهم أطلس قائلًا:
- ستغرق هذه السفينة.. عودوا إلى سفينتكم قبل أن تغرق، وبالطبع قبل أن تستيقظوا
وجدوا ذلك الرجل يجلس شاردًا كأنه لا يعبأ بأي شيء، على الرغم أنه كان مخضبًا بالدماء من رأسه إلى اخمص قدمه، وحين لاحظ الرجل وجودهم أخيرًا قال وهو ينظر إلى أوساي:
- ألا أعرفك؟!، أنتم سكان أطلس أليس كذلك؟.. لكن أين أنا؟
ردّ أوساي:
- أنت في الحلم
- أه أنا لم أمُت بعد! مهلًا!...
- إذًا نون أيضًا لم يمُت بعد
قالها بابتسامة طيبة، وأرجع رأسه إلى الخلف كأنه قد اطمئن واستراح، ثم أسبل جفونه بوهن، فقال بوهاردي بانفعال وعصبية:
- لا مهلًا.. انتظر انتظر!!!
فزع الرجل وقال:
- ما بكَ؟! لم أذهب بعد
- أه معذرةً!.. أريد فقط أن أعرف ماذا حدث لنون ولرجاله
سحب الرجل نفسًا طويلًا، وقال بعد أن زفره:
- الأوغاد.. لقد قتلوا جميع إخوتي ثم نون...
- من؟ من الذي قتلهم؟
- ظننا أنها حوّاتة عادية.. آه! بحق السماء لقد بدت كذلك، إلا أننا حين صعدنا وجدناها سفينة حربية، بها مدافع وجميع طاقمها مسلح بالكامل، كانوا كثيرين ولم يبدوا كالجنود، كانوا بحارة عاديين إلا أنهم مدربين على القتال جيدًا
ومن غير أن يجرؤ أحد على مقاطعته سكت الرجل يلتقط أنفاسه ويزدرد ريقه، ثم عاد يكمل:
- كأنهم كانوا في انتظارنا نحن بالذات.. دوَّروا القتل فينا، حتى أن نون حاول أن يغرقها، لكنهم ضربوه بالمدافع.. بعدها ألقوا بالجثث في البحر، أعتقد أن نون التقمنا في محاولة أخيرة للمساعدة...
سأل بوهاردي:
- هل تذكر أي شيء مميز في تلك السفينة؟
- قلت لكم أنها بدت كسفينة صيد حيتان عادية، لكنني أذكر اسمها جيدًا "عاهرة نانتوكيت"
قال عمار يحاول أن يخفف عنه ويواسيه:
- سنجد تلك السفينة.. سنجدها وندمرها
- لا، لا أريدكم أن تنتقموا لنا، فقط خذوا حذركم حين تخرجون إلى السطح...
سكت الرجل لبرهة ينظر إلى السماء من حوله في استغراق وأكمل:
- أعتقد أنه حان الوقت.. بلغوا أطلس تحياتي.. وأخبروه أن يأخذ حذره هو الآخر
ثم عاد يستلقي وتقوقع على نفسه، وثنى ذراعه ووضع رأسه عليه ونام كأنه طفل صغير.
ورجع الرجال مسرعين إلى سفينتهم لما بدأت سفينة نون تهتز وتميل، وشاهدوها وهي تغرق ببطء وتصدر صريرًا يفطر القلب.
ولما غرقت وغابت في الماء قال أطلس:
- اجلبوا معكم الحِبال حين أستدعيكم في المرة القادمة
فقال عمار:
- حِبال!!! لماذا؟
لكنه استيقظ قبل أن يتلقى الرّد.
★★★
أراد دكرور أن ينام بعدما استيقظ بوهاردي، لكنه امتنع عندما أيقظ بوهاردي النائمين وجمعهم ليخبرهم بشيء.
فقد كان دكرور يتجنب النوم أثناء ما ينام بوهاردي، إذ كان يقابله في عالم الأحلام بشكله وهيئته الأصلية وليس بشكل بيدرو الذي يعرفه، ولطالما كان ذلك الأمر يخيفه بعد أن يستيقظ ويصيبه بالقشعريرة عندما يتذكره.
أول مرة يراه في الحلم لم يعرفه إلا بعد أن استيقظ، فشعر بالخوف وتعجب جدًا من الأمر، لكنه لم يسأل أحدًا عنه حتى عرف بأمر بيدرو وحده، فكان يرى بوهاردي في الأحلام بعيون سوداء وليست صفراء، وبشرة سوداء وليست بيضاء، وشعره أشعث تمر فيه خطوط الشيب وليس ناعمًا ولامعًا؛ مثل بيدرو.
لم يكن يعبأ بذلك أو يلاحظه وهو في الحلم، لكنه حين يستيقظ من حلم تشاركه مع بوهاردي؛ كان يشعر بكآبة غير معلومة السبب، لذلك كان يتجنب النوم أثناء ما كان ينام بوهاردي، ليتجنب ملاقاته في عالم الأحلام.
ولسنتين كان ينام وهو يأمل أن يجد تاندي في انتظاره على سفينة أطلس، لكنه لا يكون هناك، مرت تلك السنتين طويلتين وثقيلتين، لم يتعافَ البعض من تلك الفاجعة حتى الآن، ومن فعل فقد فعلها بصعوبة وبطء، فلم يخرجوا من الجوف سوى بضع مرات للمرح وليس للصيد، وفي السنة الماضية بدأوا يعودون إلى عملهم المعتاد، لكن لم يخرجوا لاصطياد السفن سوى مرات قليلة، أكثرها كان في آخر شهر فقط.
وكان ذلك مما ساعد البعض على التعافي، وصار دكرور يساعد مافي في خرق السفينة حتى لا يكون بإمكان أفضل نجار على إصلاحها، كما أنهم صاروا يفتشون كل سفينة بعناية بحثًا عن أي أسلحة أو ذخيرة، حتى أصبح لديهم ترسانة متواضعة في داخل الجوف.
قال بوهاردي ولا زال أثر النعاس في صوته:
- والآن هل الجميع هنا؟ حسنًا يجب أن تسمع ذلك يا موريس...
ثم جلس بين الرجال وأردف:
- هل تذكرون "نون".. الحوت الذي قابلناه منذ قرابة الخمسين عامًا؟ حسنًا لقد عرفنا مِن أطلس أن هناك سفينة تحويت اسمها "عاهرة نانتوكيت" قد قتلته هو ورجاله
سأل موريس:
- متى حدث ذلك؟
- لا نعلم.. ربما مات نون منذ دقيقة
ثم قال رالف:
- نانتوكيت؟! أليست تلك هي المدينة التي أخبرتنا عنها يا أوين؟
أومأ له أوين وقال:
- نعم، نانتوكيت عاصمة التحويت
ثم أكمل بوهاردي كلامه:
- على كل حال.. يجب أن نأخذ حذرنا أكثر و...
قاطعه أطلس بصافراته الثلاث، فقال بوهاردي:
- اللعنة!.. حسنًا يجب أن نخرج ومعنا كل الحِبال
سأل دييجو:
- أهو حوت شارد؟
سمع مافي تلك الكلمة فقال بسأم:
- آه لا! هل عدنا لفعل ذلك؟!
ثم جهز الرجال وحملوا كل ما كان في الجوف من حبال، وخرجوا ليجدوا أنفسهم قريبين جدًا من يابسة يحدّها شاطئ واسع من الرمال البيضاء، ومن بعده غابة كثيفة.
كان ضوء الشمس المطفي يلوح في الأفق أعلى صفحة المياه الهادئة، ومن دون أن تتواجد الشمس بنفسها فلم يكن هناك سبيل للتمييز إن كان ذلك الغسق أم الفجر، فقط النجوم كانت تتلألأ لتنير الشاطئ وتزيد رماله بياضًا.
ثم ارتقى جميع الرجال ظهر أطلس، فرأى دكرور كتلة كبيرة سوداء ملقاة على الشاطئ صعب أن تميز ماهيتها من تلك المسافة، وفوقها سحابة من النوارس تطوف حولها، ثم قال بوهاردي مشيرًا إلى الجزيرة:
- ها هو هناك! حسنًا فلنبدأ العمل...
ثم انهمك هو ومافي ورالف في لف الحِبال حول جسم أطلس.
كان دكرور يعلم بأمر إنقاذهم للحيتان التي تعلق على الشاطئ في السابق، لكنه لم يعلم الكيفية فلم يكن يلقي للأمر بالًا، والآن وبعد أن فكّر في الأمر أكثر؛ ازداد حيرةً ولا يزال لا يعلم كيف سيفعلونها، وسأل:
- لكن ماذا يفعل على الشاطئ؟
أجابه أوساي:
- ربما قد تاه، أو سأم من السباحة، أو ربما فقط لأنه غبي!
- ألا يتنفس الهواء مثلنا؟.. لماذا يحتاج إلى إنقاذ إذًا؟
- أممم! لا أدري.. إنه فقط يموت حين يخرج من الماء
- هذا ليس منطقيًا.. ألا يمكنه انتظار عودة المدّ؟
ردّ موريس وقد بدا عليه السأم من كثرة أسئلة دكرور:
- سيموت قبل أن يأتي المدّ يا سيد منطقي! والآن خذ أحد أطراف الحِبال واسبح إلى ذلك الحوت وسنوافيك
أخذ دكرور طرف حبل وجده أمامه، وهو لا زال غير مقتنع بالأمر كله، فقال وهو يعلم أن موريس ربما سيقتله إذا تكلم:
- أعني.. ألن يؤذيه ذلك؟
انتهى بوهاردي من لفّ حبل عدة مرات حول رقبة أطلس وزعانفه، ثم ردّ على دكرور:
- أتعلم يا دكرور! اعتدنا فعل ذلك كثيرًا، لكننا توقفنا حين قتلنا من تلك الحيتان أكثر مما أنقذنا، ربما تلك الحيتان الشاردة هالكة لا محالة لكننا فقط نساعد.. إن أطلس يساعد، رغم أن ذلك يسبب له الألم الشديد، اعطني هذا...
وأخذ من دكرور طرف الحبل وربطه بإحكام بحلقة الحبال الملفوفة حول أطلس، وكرر الأمر مع أكثر من عشرة حبال أخرى، ثم سلّم أطرافها إلى موريس وإلى رالف ثم دييجو ودكرور وسيجورد، وسبح خمستهم نحو الجزيرة.
شعر دكرور بالغرابة وهو يغرس قدماه في الرمال، وقد كانت آخر مرة يلمس فيها الرمال منذ أربع سنوات، لم يشعر بالحنين مثلما أراد، لكنه شعر بعدم الأمان أكثر شيء، وأن الأرض ستبتلعه إن وقف عليها أكثر، فقرر أن يعجل في الأمر لكي يعود إلى الجوف في أقرب وقت، وسار رالف بضع خطوات في الرمال وقال كأنه يلقي شعرًا:
- أيتها اليابسة! كنت أتمنى أن أشتاق إليكِ ولكل ما عليكِ من رمال وأشجار، وكل ما فيكِ من رائحة وألوان، لكن تبًا لكِ ولكل ما عليكِ وكل ما فيكِ
انقبض قلب دكرور وشعر بالمغص أول ما رأى الحوت، فقد أعاد إلى ذاكرته حلمًا كان يتمنى بشدة أن ينساه، إنه ذاك الحلم الذي رأى فيه صيد الحيتان ربما مائة مرة، وكان أكثرهم من ذلك النوع من الحيتان القوية المراوغة ذات الرأس العظيم.
وبدأوا جميعًا يربطون الحبال حول الجسد الهائل، يمررونها في الرمال من تحت الحوت ويلفّونه بها عدة مرات، ويبدو أن سيجورد جديدًا على الأمر هو الآخر، ودكرور يشاهدهم في حيرة فقال:
- حسنًا هل سيخبرني أحد بما أفعل أم ماذا؟
فقال موريس وهو منهمك في العمل:
- يمكنكَ أن تربط حبلين آخرين في الذيل.. بإحكام وبحذر قدر الإمكان
لعن دكرور ذلك الحوت وذلك الشاطئ ولعن موريس، ثم اقترب بحذر من الذيل الخامد وألقى عليه الحبلين ودار حوله ليبدأ بلفّه عدة مرات كما خطط في ذهنه، لكن الحوت رفع ذيله وضرب ظهر دكرور بعنف كاد أن يكسره وأسقطه على وجهه في الرمال، وضحك سيجورد ودييجو وعنّفه موريس وحذره من الذيل، فنهض دكرور يستشيط غضبًا وعاد إلى الذيل الذي يلوّح في جميع الاتجاهات بوهن، وظل يراوغه ويتفاداه حتى لفّ الحبال عدة مرات وربطه بإحكام.
ولما انتهى وقف يلهث ويمسك بظهره، وقال بتهكم:
- ربما كان من الأسهل أن نحمله سويًا ونرميه في البحر
ثم ذهبوا يقفون ونصفهم في البحر، وأخذوا يصيحون ويلوِّحون بأيديهم عاليًا إلى أوساي الذي بقيَ مع أطلس، والأربعة الآخرون في البحر قريبين من الشاطئ يتعلق كلًا منهم بأحد الحبال، فسأل دكرور:
- ماذا يفعلون في الماء؟
أجابه رالف:
- سيقطعون الحبال إذا نجح الأمر
- إذا نجح الأمر!! إذا نجح الأمر فليقطعوا...
سكت دكرور لينصت إلى صوت احتكاك كالخدش من وراءه، فالتفت بسرعة إلى الحوت فرآه كما هو لكن يحرك ذيله وزعانفه أكثر.
واقترب أطلس من الشاطئ أكثر فلاحظ دكرور الحبال ترتخي في الماء، ثم شُدّت بسرعة شديدة فتزحزح الحوت مسافة قصيرة نحو البحر، حينها نفث أطلس وعَلَت صيحات الانتصار والتشجيع من الرجال على الشاطئ وفي الماء.
تسمر دكرور في مكانه ينظر بإعجاب إلى كل ما يحدث، وإلى الحوت وهو يتحرك قدمًا إثر أخرى، والرجال يرفعون صيحاتهم في كل مرة، ثم قال دييجو بانفعال وسعادة:
- ها قد أتى الجزء الممتع!
فهرع خلف الحوت وتبعه البقية، ثم تبعهم دكرور فوجدهم يدفعون الحوت بأيديهم العارية، فبدوا أنهم هم من يحركونه حين يتزحزح نحو البحر، رآهم دكرور وضحك بشدة وهو يقول:
- لا بد أنكم تمزحون! ما الفائدة من ذلك وهناك أطلس يشده بنفسه؟!!
ردّ رالف بصعوبة وهو يدفع بكل قوته:
- لا فائدة أيها الغبي! إنه يعطي شعورًا رائعًا فحسب
وانضم إليهم دكرور في جنونهم وأخذ يدفع الحوت بكل ما أوتيَ من قوة، وبالفعل كان شعورًا غريبًا بالقوة والنشوة وأن بإمكانه دفع أي شيء حتى وإن كان حوت.
ثم بدأت الأمواج تضرب الحوت كأنها تعاتبه على تركها، وما أن وصلت المياه حتى نصفه أخذ يتلوى ويضرب بذيله البحر، حينها بدأ من في الماء بقطع الحبال بسرعة، ثم عادوا إلى الشاطئ وهم يصفّقون ويهنّئون بعضهم في حماس وسعادة على هذا الإنجاز، ووقفوا ينظرون إلى الحوت وهو يغيب في الماء.
★★★
(4)
لم يقرَب أطلس المحيط الهندي من بعد أن تركه نون، فقد كان نون عائلته التي ماتت، وفصيلته التي أضاعها، وأخاه الذي لم يحظَ به، وإذ إن هو ما كان ينسيه أنه وحده، فقد صارت وحشته لا تطاق، ووحدته أشد من أي وقت مضى؛ بعد رحيله، وأيضًا لم يمكث في الأطلسي كثيرًا حتى انتقل إلى الهادي، بحثًا عن الحيتان الرمادية كما علم من رسالة نون.
لم يحتَج لأن يدرك أن المحيط ذو الألف شاطئ؛ هو المحيط الهادي، ولم يشغله في الرسالة سوى أنهم يعيشون على شاطئ المحيط الهادي متوارين عن العالم، معنى ذلك أنه يجب أن يلفّ ذلك الشاطئ إلى أن يصادفهم، وهذا وإن لم يكن مستحيلًا فإنه سيستغرق دهرًا، لكنه لم يعبأ لذلك وشرع في رحلة البحث تلك على كل حال.
سبح كثيرًا بمحاذاة اليابسة، حتى شعر أنه لفّه مرتين، لكنه علم أنه لم يقطع سوى جزء يسير من ذلك الشاطئ الذي لا يعلم له من آخِر، ثم لم يكن هناك شك في صدق رسالة نون عندما عاد شعوره بالحيتان الرمادية وتكرر، لكن كل مرة كان يذهب كما يذهب الحلم من الرأس بعد الاستيقاظ.
وذلك قبل أن يمل من البحث، ويسأم من اليابسة التي لا يحب أن يقرَبها، فشرِد مبتعدًا عنها يريد أن يكون أبعد ما يكون عن يابسة، وذلك لا يكون في أي مكان في العالم إلا في وسط المحيط الهادي، ذلك المحيط المتكبر كأنه يعلم كم هو كبير، والعدواني كأنه يعلم كم هو متقلب، والحزين كأنه يعلم كم هو وحيد.
وعندما علم أنه وصل إلى قلب المحيط الهادي؛ وجد عنده صديقًا لم يرَه منذ زمن، لم يرَه رجاله من قبل لكنهم رأوا الحيتان الزرقاء، فعلم أطلس أنه حوت أزرق، لكنه لم يكن يعلم ما هو الأزرق كما لم يعلم ما هو الرمادي، كان حوت أزرق ذو جوف، سمّاه سكان جوفه "كيانج"، لم يكن كيانج أكبر حوت على الإطلاق، لكنه كان أكبر حوت رآه في حياته بل أكبر شيء حي رآه في حياته.
بدا على كيانج السعادة الشديدة لرؤية أطلس، وبادله أطلس الشعور لكن في شيء من الأسى، فبدأ كيانج الحديث:
- لذلك لم أجدكَ في المحيط الأطلسي
- هل كنتَ هناك؟
- نعم، بعد أن غادرتُ المحيط الهندي بحثًا عن نون ولم أجِده هو الآخَر
يعرف أطلس بما يخبره لكن لا يعرف كيف يخبره، فقد كان نون وكيانج صديقين من قبل أن يعرفهم أطلس وربما من قبل أن يولد، فقال رغم ذلك:
- قد قُتِل نون منذ فترة...
- قُتِل
لم يقلها كيانج كسؤال، ولم تبدُ عليه الدهشة أو الحزن بقدر ما بدا عليه الغضب، فقال أطلس:
- قتلَته سفينة
- أي سفينة بإمكانها قتل نون؟
- بدا له ولرجاله عندما خرجوا أنها سفينة عادية تقتل الحيتان، لكنها كانت أكثر من ذلك
- وهل كنتَ هناك حينها؟
- نعم، لكن بعد فوات الأوان
- هذا غير معقول.. كيف يحدث ذلك؟
- لا أعلم، كان عليه جروح لم أرَها في حوت مَصِيد من قبل، جروح أشد من أن تسببها حربة
- ماذا إذًا؟ هل نكثف جهودنا؟ أيمكنك التكفل بالمحيط الهندي؟
- لا أعلم، لم يخرج الرجال منذ ذلك الحين، وقبلها لم أكن أخرجهم كثيرًا بعد أن مات أحدهم
- خذ وقتكَ.. لكنني سأرد لهم ما فعلوا بنون
ثم أردف بعد أن هدأ عنه الغضب:
- ماذا تفعل هنا على كل حال؟ هل أردتَ شيئًا مني؟
- قبل أن يموت نون أرسل لي رسالة أن الحيتان الرمادية تعيش في المحيط الهادي وليس الأطلسي
- أوَلَا زلتَ تبحث عنهم؟
- نعم، وكان نون يبحث معي، قال أنهم يعيشون عند شواطئ الهادي
- لا أعلم بشأنهم.. لكن أعدك أني سأجدهم من أجلك
تذكر أطلس شيئًا آخر ربما سيسهل على كيانج البحث، فقال:
- هل تعرف حوت صائب ذو جوف يعيش وحده في شمال الأطلسي؟
- نعم، أظن أنه مات هو الآخر.. لقد تمادى البشر كثيرًا
بالطبع لم يرِد أطلس أن يخبره أنه هو ورجاله من قتلوه، فاكتفى بأن قال:
- قد أخبرَني أنه يعرف أين الحيتان الرمادية، دون أن يخبرني أين
- إذًا ربما هم قريبين من هناك، فقط ارجع إلى محيطك وسأتكفل بالأمر
فعل أطلس ما قال كيانج، وعاد إلى المحيط الأطلسي وكله امتنان أنه ليس عليه البقاء في هذا المحيط أكثر.
وكان أول ما فعل بعد أن عاد أن أخرج رجاله إلى سفينة، وفي حين أنهم لم يخرجوا منذ فترة طويلة فلم يكتفوا بسفينة واحدة وأسقطوا أخرى كانت على مقربة، ثم عادوا بعد أن انتهوا وقد جلبوا معهم شيئًا آخر، شيء لم يرَه أطلس أو يفكر فيه من قبل، فلم يمانع إدخاله، لكن بعد أن أمعن التفكير أكثر في ذلك الشيء وفي رجاله؛ علم أنه سيسبب له الاضطراب في جوفه.
★★★
عاد دكرور إلى بيته فوجد الحوت أمّه تحتسي الخمر مع أطلس فجلس معهما وتناول كوبًا هو الآخر لكنه كان فارغًا فطعن أطلس بخنجره وملأ الكوب بدمه الأصفر المضيء وشربه حتى سال على ذقنه فخرج أطلس مستاء ودخل بعده أوساي الذي كان رجل صحيح كامل بل رجل عملاق فأمسك بتلابيب دكرور وبدا كأنه يعنفه لكنه كان يضحك ويغني ثم صفع دكرور صفعةً أعادته إلى عالم اليقظة
كان دكرور يمشي على ذلك الطريق المؤدي إلى عالم النوم؛ حين صفعه أوساي وأجبره على العودة، فاستيقظ ليجده رافعًا كفه فوق وجهه على وشك أن يكرر صفعه، لكنه توقف حين نظر إلى دكرور ووجده فاتحًا عينه ينظر إليه شزرًا.
استلّ دكرور خنجره قبل أن ينهض بسرعة، فهرع أوساي يركض بطول السفينة، ودكرور وراءه حاملًا خنجره في يده، وحين كاد أن يدركه ألقى أوساي بنفسه من السفينة من دون أطلس ليلتقمه، فنادى عليه دكرور:
- إلى أين تظن نفسك ذاهبًا؟ كلنا عائدون إلى جوف واحد
فقال عمار وهو يشير إلى الأفق:
- يا رفاق! ربما لن نعود الآن...
نظر الجميع إلى حيث يشير فوجدوها سفينة أخرى بعيدة، فقال دييجو:
- تبًّا! هل رأونا؟
أجاب موريس وهو ينظر إلى السفينة البعيدة من خلال منظار:
- وإن لم يرونا فسوف يرونا، إنها سفينة تحويت...
ثم رفع المنظار عن عينه وأردف:
- والآن هل سنقاتل؟ لم يحدث أن أسقطنا سفينتين في مرة واحدة من قبل، أليس كذلك؟.. القرار لك يا هاردي
فردّ بوهاردي بثقة وحماس وهو عاقد ذراعيه إلى صدره:
- بالفعل ستكون هذه سابقة، لكن هل يشعر أحد بالتعب؟ دكرور! هل ذهب صوتك بعد؟
تنحنح دكرور كأنه يختبر صوته ثم قال:
- لا! لا أظن!
- كما لم يذهب بصري بعد، وكما لم تضعف قوّتي بعد، والآن فليستعِد كلًا منكم حربته.. لأننا لم ننتهِ بعد!
رفع الرجال قبضاتهم وصيحاتهم، إلا أوين فقد قال:
- حسنًا! ما الخطة إذًا؟
بدا على بوهاردي الحيرة، حتى ردّ موريس:
- يجب أن ننتظر حتى تأتي تلك السفينة، وستأتي على كل حال...
- وإن لم تأتِ؟
- ستأتي حين ترى هذه وهي تغرق، مافي! انزل واخرقها، وسنتوارى خلفها حتى تأتي الأخرى.. مفهوم؟!
نزل مافي إلى الكوثلة ومعه دكرور وخَرَقا السفينة وبالغا في ذلك، ثم عادا وأصبح الجميع في الماء يختبئون من السفينة المتجهة صوبهم، وبوهاردي يراقبها بحذر حتى أصبحت على مسافة يمكن السباحة إليها من تحت الماء، ثم غاص وسبح من تحت السفينتين، وتبعه رجاله.
كان سطح السفينة هادئًا إلى حدٍ ما، وكل بحارتها يقفون عند السور المقابل يشاهدون السفينة الأخرى وهي تغرق ببطء، فسار بوهاردي بهدوء إلى إحدى صناديق الحِراب ففتحها وجلس بجانبه متواريًا عن البحارة حتى يصعد باقي الرجال.
وهرع أوساي يتسلق الصاري الرئيس، فوقف بوهاردي وأخرج بندقيته وصوبها نحو البحارة، وقبل أن يرميهم توقف عن الحركة فجأة حين وجد فتًى لا يبدو أكبر من عمار يشاهدهم باستغراب وخوف، ودون أن ينبس أحد بكلمة هرع الفتى يجري وضرب الجرس بعصبية وهو يزعق قائلًا:
- إنهم هم! لقد جاءوا.. إنهم هم!!!
التفت جميع البحارة إلى الفتى، فوجدوا مافي يهشم رأسه في العمود المعلق منه الجرس، ودون تردد أكثر فتح الرجال النيران، فلم يطلق القليل منهم، والبقية قد فسدت أسلحتهم، فبدّلوها بالحراب وتلك أصابت كلها.
واختبأ بقية البحارة على الفور وأراد الرجال أن يعيدوا الكرة، لكنهم وجدوا بعض البحارة يردّون إطلاق النيران ورمي الحراب، حتى كادت واحدة أن تصيب أوين في مقتل.
ثم توارى كلا الفريقين عن بعضهما يتبادلون رمي الحراب، فقال رالف:
- يبدون أشداء!
رَد أوين:
- بل يبدون أوغاد...
ثم قال دكرور:
- لا يجب أن ننتظر أكثر
فقال موريس:
- بالفعل.. يجب أن نهجم وهم لا زالوا مفاجَئين
فخرجوا من مكامنهم بحرابهم وسيوفهم لاستئناف القتال، لكنهم لم يجدوا أيًا من البحارة، إذ كانوا قد هربوا إلى الكوثلة في الأسفل، ثم صعد أحدهم فجأة وأخذ يطلق ببندقية بعشوائية، فعاد الرجال يختبئون حتى أصابه دييجو بحربته، وظلوا متأهبين في ثبات وسكون يسمعون أصوات الجلبة من البحارة بالأسفل.
وجدوا عمار يسير بهدوء والتقط بندقية، وشاهدوه يفك رباط أحد البراميل ودحرجه أمامه حتى أسقطه في فتحة الكوثلة، فسمعوه يتدحرج على السلم فنزل عمار وراءه وأطلق عليه محدثًا انفجارًا لم يكن كبيرًا، لكنه كان كافيًا لإنهاء القتال.
وخرج عمار تحسبًا لأن لا يزال أحدهم حيًا، واقتربوا جميعًا من فتحة الكوثلة شاهرين أسلحتهم، ثم توقفوا فجأة وتوتروا حين وجدوا حربة ترتفع ببطء معلقًا من أعلاها قطعة قماش أبيض مهترئ.
قال رالف لموريس باستغراب شديد:
- هل يستسلمون؟!!
لم يرُد موريس عليه، لكنه قال:
- اخرج ولن يمسّكَ أذى!
ارتفعت الحربة أكثر وظهر حاملها، وكان جليًّا من ملابسه فقط أنه القبطان، ثم تبعه أربعة آخرون، ووقفوا أيديهم مرفوعة في السماء، وقال حامل الحربة يبتذل الثبات:
- أنا قبطان هذه السفينة.. القبطان جيمس وينسلو، سأعطيكم ما تريدون، وسأخبركم بما تريدون، لكن أرجوكم أن تتركوا هذه السفينة وشأنها
نظر الجميع إلى بعض في دهشة واستغراب وقال لهم بوهاردي كأنه يشاورهم:
- هل يريد أحد أي شيء؟
وقال أوين وهو يثبت بصره على القبطان:
- نريد أن نعرف عن سفينة معينة
قال القبطان:
- حسنًا فقط سمِّها لي
- اسمها عاهرة نانتوكيت
- أقسم أني لم أسمع بها من قب...
وقطع كلامه فجأة، وقال بذعر وهو ينظر خلفهم:
- لا! توقف! لا تفعل!!!
قبل أن يلتفت أي أحد أطلِقت رصاصة من خلفهم أصابت دييجو الذي كان يقف متكئًا فأسقطته، وفي اللحظة التالية أطلق أحد البحارة رصاصة أخرى على رالف أصابته لكن لم تسقطه، فرمى أوين حربته أولًا لتصيب القبطان، ثم انهالت الحراب على البقية فصرعتهم كلهم، وكان سيجورد قد قضى على مطلق الرصاصة الأول، والذي كان عبارة عن جثة عادت إلى الحياة لتطلق النار على دييجو وتعود إلى الموت مرة أخرى.
ولحسن حظهم البحت، أصيب دييجو في ساقه التي لم يعد يشعر بها على كل حال، ما سيجعله محط سخرية لعدة أيام أخرى، وأضيفت رصاصة أخرى إلى جسد رالف وتلك المرة كانت في ذراعه الأيسر فلم تقتله فورًا، فلكنهم أعادوه إلى الجوف فورًا، وأصيب البقية إصابات طفيفة يمكن أن تشفى تمامًا بداخل الجوف.
★★★
بدأ الرجال يعودون إلى الجوف فور أن انتهى القتال، فقد مكثوا خارجه لمدة طويلة بالفعل، لكن دكرور لم يُرِد أن يعود الآن، كما أنه لا يشعر بأي تعب أو أن صوته قد ذهب، فانضم إلى مافي كما أصبحت عادته ليغرقوا السفينة، وأكمل مافي حديثه مع دكرور قائلًا:
- ربما حسبنا قراصنة
- لا أعلم.. لقد بدا كأنه يعرفنا
- وكيف له أن يعرفنا أيها الغبي؟!
- لا أدري.. لم أشهد قتالًا مثل ذلك طوال سنواتي الخمس هنا، وأنت! منذ متى وأنت تفعل ذلك.. هل رأيتَ قتالًا أشرس من ذلك؟ هل طال قتال لدرجة أن يستسلموا؟
- ربما لم يستسلم أحد من قبل، لكن لم يطُل قتال مثلما كان يوم موت زيمان ويوم بيدرو.. أفعل ذلك منذ قرابة الستين عامًا ولم أشهد مثل هاذين اليومين حتى الآن
- اللعنة!.. كم أصبح عمرك الآن؟
- آه! إن كنا في عام ستة وأربعين.. فهذا يعني أنني... في عامي التاسع والعشرين بعد المائة
- اللعنة!!! بدأت أشعر أنها لعنة، وأنا ملعون بتقبلي إياها
- ربما تكون لعنة وربما نكون ملعونين، لكنني أفضّل أن أكون ملعونًا في هذه الحياة على أن أعود إلى حياتي السابقة
- حقًا! وكيف ذلك؟ بالفعل يا مافي أنت لم تخبرني من قبل كيف غرقتَ
- أنا غالبًا لا أحكي كيف غرقتُ، لكنني أحبك أيها الوغد البائس!
ضحك دكرور، ثم عاد يسأل:
- إذًا لم يلقوكَ لتخفيف حمولة السفينة؟
- ماذا! من أخبرك ذلك؟
- عمار
- اللعنة على ذلك الغبي! سأقتله
ثم زفر ضحكة يائسة ساخرة وقال كأنه يحكي مشهدًا يراه أمامه:
- لم أعد أذكر إن كانت هناك عاصفة أساسًا، لكن لم تكن العاصفة قد وصلتنا بعد حين أخبرَنا النخاسين أن ننتقي أحدنا لكي يُلقى من السفينة وإلا قتلوا جميعنا، أنت تعلم أن بإمكاني الفتك بعشرة رجال.. لكنهم كانوا أحد عشر...
هزّ رأسه وهو يبتسم بيأس وأردف:
- أتدري.. لم أكن لأعبأ إن كان النخاسين هم من فعلوها
- تبًّا! وأنا الذي كنت أعتقد أنني أشقى من دخل جوف حوت
- حسنًا.. ستحكي لي كيف دخلت جوف ذلك الحوت حين نعود إليه، لكن الآن يجب أن نغرق هذه السفينة
ثم أعطاه فأسًا وابتعد يبحث عن منطقة صالحة لصنع الخَرق، وجلس دكرور على أحد براميل الزيت، يمدّ ذراعه يتأمل جرحًا طويلًا فيه، كان يؤلمه ويحرقه، لكن كل ألم كان يذهب من مجرد التفكير أنه سيعود إلى الجوف وسيذهب الألم الفعلي، حتى تناهى إلى سمعه صوتًا آتيًا من ورائه يشبه مواء القطط، فالتفت بحدة:
- مَن هناك؟!!
رَدّ مافي من الجهة الأخرى:
- أنا هنا أيها الأحمق!
نظر دكرور يتفحص المكان، ثم عاد صوت المواء، فوجد أنه آتيًا من براميل مغطاة بغطاء أسود، وبالفعل وجد شيئًا يتحرك من تحته، ثم سمع صوت طرق مافي على الخشب عدة مرات، فرفع فأسه متأهبًا، فعاد مافي وهو يقول:
- هل ستساعد أم ماذا؟
وضع دكرور سبابته على فمه بعصبية يحذره من الكلام، فسبّه مافي وعاد إلى عمله، وسرعان ما سمع صوت تدفق الماء أثناء صوت طرق الفأس على الخشب، فاستجمع دكرور شجاعته وقبض على فأسه بإحكام وسحب نفسًا ثم سحب الغطاء.
فغر فاه واقشعر جسده وتراجع خطوة وأرخى فأسه، كأنه رأى وحشًا أو حوت قاتل يريد أن يفتك به، وأسوأ ما توقع هو أن يكون رجلًا مختبئًا، لكنه لم يكن وحشًا أو حوتًا أو قطة حتى أو رجل، بل كانت أول فتاة يراها منذ خمس سنوات.
كانت تمُد ذراعها بسكين تصوّبه نحوه، بالطبع لم يكن ذلك ما جعله يذعر، بل ما كان في ذراعها الآخر، والذي كان رضيعًا في لفّته، فأدرك أنه مصدر المواء.
★★★
أنا أيضًا جحظت ورفعت حاجبيّ في دهشة حينما وجد دكرور فتاة وطفل على إحدى السفن، فكانت نهاية لا بأس بها لفصل لا بأس به، فأردت أن أكمل بسرعة، ولم أكمل نصف الصفحة التالية حتى جاء دكرور فقلت له:
- لقد بدأت القصة تثير اهتمامي
- حقًا! أين وصلت؟
- عندما... عندما وجدتَ الفتاة على السفينة
قال دكرور باهتمام يبدو فيه التهكم أكثر:
- أه بالفعل! يجب أن تعجبكَ، فقد بدأت القصة للتو
أغلقتُ الكتاب بعد أن تعبت من القراءة لليوم، وقلت لدكرور:
- ألم تتزوج من قبل؟
زفر ضحكة يائسة وقال:
- مرة.. كانت أول وآخر مرة، بعدها أدركت أنها لعنة بالنسبة لإنسان يعيش إلى الأبد، فلم أكررها
- أعرف تمامًا ماذا تقصد، فقد تجرأت مرة وأحببت إحداهن، وكان الأمر أسوأ حين أحبتني هي الأخرى، وزاد الأمر سوءًا حين أنجبنا طفلة جميلة...
لم أقدر على منع نفسي من ذرف الدموع التي قد نضبت من عيني على مدار العشر سنوات الماضية، منذ أن ماتت طفلتي في عمر التاسعة والأربعين ومن قبلها أمها، ثم قلت بعد أن مسحت عيني بيدي:
- ظننتُ أنك وسام زوجين أو ما شابه...
اعتدل دكرور في جلسته وعقد حاجبيه كأنني سببته، وتأكدت بالفعل أنني سببته عندما قال بهدوء لكن بحِدّة:
- احفظ لسانك وإلا طردتُك من هنا!
- ماذا؟! ماذا قلتُ لكل ذلك؟!!
- لن أسمح لك بأن تهين رجالي! هؤلاء الرجال... هؤلاء الرجال إنهم رجال من قبل أن يكونوا ذكورًا
- ماذا؟!! أنا لم أهِن أحدًا، لاحظتُ فقط أنك وسام صديقين وتعيشان معًا وتحبان بعضكما، هذا ما جعلني أعتقد أنكما...
- أيها المعتوه! ليس معنى أني أحب صديقي أني أريد النوم معه، ألا يمكنني أن أحب صديقي من دون أن أريد منه شيئًا؟ ألا يمكنني أن أحبه فقط لأنه هو؟ ذلك الحب الخالص الذي لا يشوبه احتياج أو شهوة
فقلتُ دون أن أحسب حساب عواقب ما سأقول:
- وهل أحببتَ زوجتك هكذا؟
بدا أن دكرور يقاوم بصعوبة ألا ينتزع حلقي بيده وهو يقول من وراء أسنانه التي يجز عليها:
- لا بالطبع! افهم! إن حب المرأة شيء آخر، شيء لا يقارَن بشيء...
ثم هدأ وربما ارتسمت على ثغره ابتسامة خفيفة وأردف:
- لا يجب أن تقارِن حبك لحبيبتك بحبك لأي أحد آخر، فعلاقة الحبيب وحبيبته مبنية أصلًا على الاحتياج لبعضهما، واشتهاء بعضهما، والاشتياق لبعضهما، وكل تلك الأمور التي تجعله مميزًا وجميلًا
ثم أضاف بعد أن عادت إليه جهامته:
- هناك جزء خاوي في قلب كل رَجُل لا يجب أن تَشغَله إلا امرأة، وليس رَجُلًا من شَغَل ذلك الجزء برَجُلٍ آخَر
- أذكر أن وجهة النظر تلك ربما كانت صحيحة منذ مائة عام، لكن الناس هذه الأيام...
- اللعنة على الناس هذه الأيام! وجهة النظر تلك صحيحة في كل الأزمان، فهمتَ؟
- ربما، لكنني لا أفهم كيف تجد ذلك شيئًا خاطئًا بينما القتل...
- من قال أني لا أجد القتل شيئًا خاطئًا؟ إذا كنتَ تتكلم عن الإنسانية فوبخني كما تشاء فأنا لستُ إنسانًا حتى، لكنك تتحدث عن الرجولة، فالقتل وإن نقص من الرجل إنسانيته إلا أنه لا ينقص من رجولته شيئًا، والآن لا أريد أن أسمع المزيد في الأمر
ثم سكتنا لمدة، فأردت أن أخفف من حدة الكلام فقلت بمرح:
- ألا زلتَ لن تخبرني مَن مِن سكان أطلس يعيش هنا؟ غيرك أنتَ وسامبار، وذلك الرجل الآخر..
ضحك دكرور وقال:
- لِمَ تُصِرّ على أن تفسد الحكاية؟ لقد أفسدتها كفاية بمعرفتك أن سامبار على قيد...
قطع كلامه، ووضع كوبه جانبًا، وقد تحول مرحه إلى أسى، ومسح على جبينه في تأثر شديد، فعلمت أنه لا يحب الكلام عمّن لا يعيش هنا، فلم أسأل في ذلك بعدها، وتركت الرواية لتجيبني...